الاسم

your name

بريد إلكتروني *

Your Email

رسالة *

your message

نحيط علما زوارنا الكرام انه بإمكانهم المشاركة في الموقع بمواضيعهم ما عليهم إلا ان يرسلوها الى العنوان التالي hamza--tazi@hotmail.com وسيتم نشرها بأسمائهم وشكرا
ننصح بهذا

Pages

Pages

القران الكريم

Recent Comments

بحث حول القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإسلامي - قاعدة المشقة تجلب التيسير أنموجا -

مرسلة بواسطة مدونة التربية والتعليم بالمغرب يوم الاثنين، 23 مايو 2011 0 التعليقات




Parchemin horizontal: مقدمة 


 مقدمة






الحمد لله البارئ المصور الخلاق، الوهاب الفتاح الرزاق، المبتدئ بالإنعام قبل الاستحقاق، وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق، حتى فاق جميع البرايا في الأفاق وعلى آله الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق، وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق، صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق، ومن تبعهم إلى يوم القيامة بلا نفاق ولا شقاق، وعلينا معهم بمنك وكرمك يا من يعاذ به من شر الخلق في جميع الآفاق.


أما بعد: فإن القواعد الفقهية مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف، فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجدع، وحاز قصب السبق من فيها برع ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمل ولم تقض نفسه من طلب مناها ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان فبين المقامين شأو بعيد، وبين المنزلين تفاوت شديد[1].


ولما كانت القواعد الفقهية تلك أهميتها وجدت نفسي ميالة إليها، رجاء أن أحرز على القليل منها، لأنني في هذا الوقت القصير لم أفتح إلا بابها، إذ بلوغ المرام فيه محال، يحتاج إلى زاد علم وطول آجال، لكن في الله كثير آمال، أن يوفقني في إدراك هذا اللآمال.


ولما رأيت كتب القواعد الفقهية جعلت من التطويل سبيلها، ذكرت كل قاعدة دون تفصيلها، إلا القليل ممن ألف فيها وخالفها، وقع في نفسي أن أختار واحدة من بينها، وأن يكون من الخمس الكليات إفرادها. فاخترت المشقة تجلب التيسير، بعد أن تطلب فهمي لها عناء كبيرا، لعلمي القليل بالموضوع، وضيق الوقت لإنجاز هذا المشروع إلا أني ووجهت بصعوبة الحصول على الكتب في الموضوع رغم وجودها في المكتبات بكثرة وافرة فأنجزت بحثا متواضعا سلكت فيه منهجا ميسرا قسمته إلى مقدمة وخاتمة وثلاث فصول.


بدأت في المقدمة ببيان أهمية الموضوع، وعرضت فيها ما واجهني من كل مشكل مشروع وقبلها أتيت بإهداء ضمنته كل عزيز قريب أو بعيد، وأردفته بشكر كل أساتذتي وعلى رأسهم مشرفي الذي هو كالجبل العتيد ثم جاءت البقية التالية:


الفصل الأول: قسمته إلى مبحثين: عرفت في  أولهما القواعد الفقهية والقواعد الأصولية والضابط الفقهي.


وخصصت ثانيهما للفروق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية من جهة وبين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي من جهة أخرى.


وختمته بنبذة وجيزة لنشأة القواعد الفقهية وتطورها.


الفصل الثاني: قسمته إلى ثلاث مباحث، عرفت في أولها قاعدة المشقة تجلب التيسير وأصلت لها من الكتاب والسنة وأنهية بتجلية الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة وبين المشقة التي لا تسقطها. كما عرفت في المبحث الثاني الرخصة الشرعية وبينت أنواعها وذكرت أسباب التخفيفات الشرعية وأنواعها في حين قمت في المبحث الثالث بذكر قاعدتين من القواعد المندرجة تحت القاعدة موضوع البحث معرفا  كلا منهما وذاكرا لبعض فروعهما.


الفصل الثالث: وهو آخر فصول البحث تطرقت فيه بتفصيل لتطبيقات قاعدة المشقة تجلب التسير في بعض أنواع العبادات-كالصلاة والصيام- من خلال القرآن والسنة مبينا من خلاله يسر الشريعة الإسلامية وسهولة أداء شعائرها دون إعنات أو مشقة.


ثم ختمت هذا البحث المتواضع بخاتمة ضمنتها أهم النتائج والخلاصات التي استنبتطها منه.





والله ولي التوفيق




















الفصل الأول:





تعريف القاعدة الفقهية، والقاعدة الأصولية، والضابط الفقهي


والفرق بينهم
المبحث الأول: تعريف القاعدة الفقهية والأصولية والضابط


المطلب الأول: تعريف القاعدة الفقهية


أ- لغة:


 للقاعدة في الإطلاق اللغوي معان كثيرة لكن رغم ذلك فإنها تدور حول معنى واحد حيث نجد من معانيها:


- القواعد من النساء، وهن اللواتي قعدن عن الأزواج ويقال للمرأة قاعد إذا قعدت عن المحيض[2] قال تعالى [ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا][3] والقواعد من صفات الإناث لا يقال رجال قواعد، والقواعد: جمع قاعدة وهي: المرأة الكبيرة المسنة[4].


- قواعد البيت: وهن أساطين البناء التي تعمده[5] قال تعالى: [وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل][6] ومما يشبه هذا المعنى كذلك قوله تعالى: [فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون][7].


- قواعد الهودج: وهي خشبات أربع معترضة في أسفله تركب عيدان الهودج فيها[8].


- قواعد السحاب: وهي أصولها المعترضة في أفاق السماء[9]


إلا أن الناظر في أقوال العلماء والمتمحص لتعريفاتهم يجدهم يتفقون على أن معنى القاعدة في اللغة هو الأساس، فقاعدة الشيء أساسه وأصله الذي ينبني عليه. وهكذا فالقواعد الفقهية هي: الأصول والأسس التي تنبني عليها فروع الفقه ومسائله الجزئية  ويدخل في ذلك الحسي والمعنوي"[10].


ب- اصطلاحا:


بعد البيان اللغوي لمعنى القاعدة ننتقل إلى بيان مدلولها الاصطلاحي "فقد اختلف العلماء في تعريف القاعدة الفقهية، بناء على اختلافهم في مفهومها والمقصود منها هل هي حكم أغلبي أو كلي؟ هل هي أغلبية أو فرعية أو شرعية؟ هل القاعدة عند الأصوليين والنحاة هي نفسها عند الفقهاء؟"[11].


غير أن جل هذه التعريفات إذا لم أقل كلها تختلف من حيث المبنى واللفظ لا من حيث المعنى والمقصد. فمعانيها كلها متقاربة وإن اختلفت الألفاظ التي تدل عليها وتعبر عنها.


وهكذا فإنه يمكننا التمييز بين مستويين من التعريفات الاصطلاحية للقاعدة: فصنف من تعريفات العلماء يتناول القاعدة بمعناها العام:


 مثل تعريف الجرجاني: بأنها "قضية كلية يتعرف منها على أحكام جزئياتها"[12].


وتعريف الطوفي: "القضايا الكلية التي تعرف بالنظر فيها قضايا جزئية"[13]


وتعريف ابن السبكي: "الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تعرف أحكامها منه"[14].


- وصنف أخر من تعريفات العلماء يتناول القاعدة بالمعنى الفقهي المخصوص مثل:


تعريف المقري: "كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود جملة الضوابط الفقهية الخاصة"[15].


وتعريف أحمد الزرقاء: "أصول فقهية كلية، في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تندرج تحت موضوعها"[16].


كما يلاحظ أن هناك فريق من الفقهاء ينظر إلى القاعدة على أنها أغلبية لا كلية كما هو الشأن بالنسبة للحموي الذي عرفها بأنها: "حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته لتعرف أحكامها منه"[17].


وبالنظر في التعريفات الاصطلاحية المختلفة التي عرف بها الفقهاء القاعدة الفقهية يمكننا الخروج بما مفاده أن التعريفات الاصطلاحية لم تبلغ درجة تسلم فيها من الانتقاء وذلك لأمرين:


أولها: عدم جمعها لجميع الجزئيات التي تدخل في إطار القواعد الفقهية.


ثانيهما: عدم منعها من دخول ما ليس مندرجا في إطارها.أي أنها ليست جامعة مانعة. "وهذا ما جعل الكثير من الباحثين المحدثين الذين كتبوا في القواعد الفقهية يقفون أمام هذه القواعد موقف الحيرة... ينتقون منها ما يعتقدون أنه أجمع وأشمل بعد تعليق ونقد ووصف بعضها بأنه قاصر وبعضها بأنه واسع، وبعضها بأنه مخل بشروط التعريف وحقيقة الحد..."[18].


ومن بين الباحثين المحدثين الذين تعقبوا تعريفات الباحثين القدامى بالدرس والتحليل والنقد، مظهرين عجز الباحثين القدامى عن صياغة تعريفات للقاعدة الفقهية تكون جامعة لجميع الجزئيات التي تنطوي عليها القاعدة الفقهية وتحويها. كما تكون مانعة من خروج بعض أجزاء هذه القاعدة منها: الدكتور محمد الروكي الذي وضع تعريفا للقاعدة الفقهية ضمنه أهم النقاط الأساسية التي يلزم توفرها في أي تعريف. فعرفها بأنها: "حكم كلي مستند إلى دليل شرعي مضوع صياغة تجريدية محكمة، منطبق على جزئياته على سبيل الاضطراد أو الأغلبية"[19].


فالدكتور حفظه الله حينما هم بوضع تعريف للقاعدة الفقهية عمد إلى "قراءة التعاريف السابقة قديمها وحديثها ثم بيان العام والخاص منها كما قام بقراءة عناصر القاعدة الفقهية ومحتوياتها ليكون تعريفا دقيقا"[20]


إلا أن سنة التغيير التي لحقت تعريفات القدامى لم يسلم منها تعريف الدكتور الروكي هو الآخر حيث أخذه الدكتور عبد الله الهلالي بالدرس والتحليل ورأى أنه ليس على هيأته النهائية التي ينبغي أن يكون عليها. فبالرغم من أنه أدق من التعاريف التي سبقته إلا أنه في حاجة إلى زيادة ونقصان إذ يحسن أن تحذف منه ألفاظ كما يحسن أن تضاف إليه ألفظ أخرى ليزاد في دقته وذلك ما قام به حفظه الله حين أخذه فنقحه وعدله، ليخرج في الأخير بوضع  تعريف محكم للقاعدة الفقهية حيث عرفها بأنها: "حكم شرعي فقهي كلي مصوغ صياغة محكمة، منطبق على جزئياته إطرادا أو أغلبية"[21].


غير أنه في إيطار التعريف العلمي للقواعد لابد من مراعاة العناصر الأساسية التي تتكون منها القواعد الفقهية واستيعابها جميعا داخل التعريف وذلك ما أكد عليه كل من الدكتور محمد الروكي، والدكتور عبد الله الهلالي حفظهما الله حينما حددا العناصر الأساسية للقاعدة الفقهية في ثلاث نقاط:


النقطة الأولى: استيعابها للجزئيات المنضوية تحتها اطرادا أو أغلبية.


النقطة الثانية: أن يكون لها أصل شرعي تستند إليه، وتستقي منه حجيتها وقوتها.


النقطة الثالثة: أن الحكم الشرعي الدال على حجيتها لا يقتصر على جزئية بعينها ولا يرتبط بسبب نزوله أو وروده[22].


وأضاف الدكتور عبد الله الهيلالي نقطة رابعة هي "أن يكون لها- أي القاعدة ما يميزها عن الضابط وعن القاعدة التي تكبر عنها أو تصغر عنها"[23].


وهكذا فقد كثرت التعاريف التي صيغت للقاعدة الفقهية وتنوعت وتميز بعضها عن بعض. إلا أن التعريف المختار عندنا هو ما أورده فضيلة الشيخ العلامة محمد التأويل حفظه الله في إحدى محاضراته[24] "بأنها حكم شرعي عملي كلي أو أغلبي ينطبق على جميع جزئياته أو أغلبها".


فتعريفه للقاعدة الفقهية بأنها: حكم شرعي معناه أن هذا الحكم مأخوذ من الشرع مستمد منه، وبهذا تخرج القواعد الأخرى غير الشرعية كالقانونية وغيرها... فإنها لا تسمى حكما شرعيا.


وقوله عملي: فهو إشارة إلى خروج الأحكام الشرعية الاعتقادية مثل: الله تعالى موجود... فهذه تسمى أحكاما شرعية أصولية: أي أنها من أصول الدين أما الفقه فموضوعه: الأحكام العملية. أي: أحكام الجوارح الظاهرة والباطنة.


وقوله كلي أو أغلبي: معناه أن القاعدة منها ماهو كلي ومنها ماهو أغلبي. فهناك قواعد لم يدخلها استثناء، وقواعد دخلها الاستثناء إما قليلا أو كثيرا.


فمن القواعد الكلية التي لم يدخلها أي استثناء بمعنى أنها شاملة وعامة قاعدة: "كل أنثى لا تعقد نكاح أنثى" ومعناها أنه ليس هناك إمرأة لها الحق في تزويج أخرى. فهي قاعدة كلية لا استثناء فيها ويدخل في ذلك حتى من كانت وصية على امرأة أخرى لا يجوز لها أن تعقد لها وكانت هي وليتها بينما إن كانت ولية على الذكر جاز لها أن تعقد عليه.


أما القواعد التي يدخلها الاستثناء فهي كثيرة منها قاعدة "الضرر لا يزال بالضرر" فمعنى هذه القاعدة: "أن الضرر لا يزال بمثله ولا بأكثر منه بالأولى بل يشترط أن يزال الضرر بلا إضرار بالغير إن أمكن وإلا بالأخف منه..."[25] فقد استثنى من هذه القاعدة مالو كان أحد الضررين أعظم فإنه عندئذ نزيل الضرر الأعظم بارتكاب الضرر الأخف. ومن أمثلة ما يستثنى منها ما يلي:


  القصاص من القاتل: فإن في  قتل القاتل ضررا ولكن قتله أخف من ضرر تركه حتى لا يشيع القتل في الأمة. ولا شك أن شيوع القتل أعظم ضررا من القصاص بل القصاص فيه حياة[26]. قال تعالى: [ ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب ][27].


وهكذا فقد تعددت آراء الفقهاء في القواعد الفقهية فمنهم من يرى أنها كلية وإلى ذلك ذهب المقري. ومنهم من يرى أنها أغلبية كما هو رأي الحموي ومنهم من يرى أن منها ماهو أغلبي ومنها ماهو كلي كما عرفها فضيلة الشيخ العلامة محمد التأويل حفظه الله. إلا أن الذين يرون أنها كلية لا ينفون خروج بعض المستثنيات من القاعدة "لكن هذا الخروج لا يقدح في كليتها وبهذا يظهر أن الخلاف اصطلاحي. فالجميع متفقون على خروج بعض المستثنيات من أكثر القواعد ولا مشاحة في الاصطلاح"[28].


المطلب الثاني: تعريف القاعدة الأصولية


لقد وضع العلماء القواعد الأصولية كأدوات للاستنباط والاجتهاد وأول من صنف فيها ووضعها في كتاب مستقل هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة ويعرفها عبد العزيز محمد عزام بأنها "قضية كلية يتوصل بها الفقيه إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية"[29].


ومن القواعد الأصولية الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة:


فهذه القاعدة الأصولية تبين الحكم الشرعي لكثير من الأفعال التي خاطب بها الشارع المكلفين والتي جاءت بصيغة الأمر ومنها قوله تعالى : [ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض]"[30] فإن الأمر بالانتشار في طلب الرزق جاء هنا بعد النهي عن البيع وقت النداء لصلاة من يوم الجمعة في قوله تعالى [ يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون][31].


فإن الأمر هنا وقع بعد الحظر فيفيد الإباحة.


ومثال ذلك من السنة قوله عليه الصلاة والسلام (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت ألا فكلوا وادخروا)[32] فالأمر الوارد في الحديث بأكل لحوم الأضاحي وادخارها جاء بعد الحظر على ادخارها، وهذا الحظر جاء لعلة طارئة معلومة وهي تلك الظائقة التي كانت حلت بالأمة فكان الأمر بعده ليعيد الحكم الذي كان يسبق الحظر وهو الإباحة.


المطلب الثالث: تعريف الضابط


أ- لغة: الضابط من الضبط وهو لزوم الشيء وحبسه، وقال الليث: الضبط لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء وضبط الشيء، حفظه بالحزم، والرجل ضابط أي حازم[33] وقال ابن دريد: ضبط الرجل الشيء يضبطه ضبطا، إذا أخذه أخذا شديدا[34].


ب- اصطلاحا: يمكن تعريفه بأنه حكم أغلبي يتعرف منه أحكام الجزئيات الفقهية المتعلقة بباب واحد من أبواب الفقه[35] مباشرة فهو يشترك – في معناه الاصطلاحي- مع القاعدة الفقهية في أن كل منهما يجمع جزئيات متعددة يربط بينهما رابط فقهي[36].








المطلب الرابع: تعريف الفقه


لما كانت القواعد الفقهية مقرونة بالفقهية فإنه يخرج منها ما ليس فقهيا كقواعد الحساب والهندسة والفلسفة والقانون... ونسبة القواعد إلى الفقه يجعلنا نلقي الضوء على معنى الفقه لغة واصطلاحا.


الفقه لغة: الفقه أشهر معاني الفقه في اللغة العربية هي: العلم، والفهم "فالفقه هو: العلم أو الفهم له، يقال فقه الرجل فقها وفقها، وفقه الشيء علمه، وفقهه وأفقهه: علمه وقد غلب على الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم.


قال ابن الأثير: واشتقاقه من الشق والفتح جعله العرف حاصلا بعلم الشريعة. يقال أوتي فلان فقها في الدين أي: فهما فيه[37]: [ قال تعالى: ليتفقهوا في الدين][38]أي ليكونوا علماء به وقال أيضا: [ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول][39] وقال [ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا][40] وقال: [وجدوا من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا][41].


الفقه اصطلاحا: لقد تدرج تعريف الفقه عبر مراحل التطور والفهم للدين من زمن لأخر لكن التعريف الذي استقر عليه هو ذلك الذي ارتضاه له البيضاوي حيث عرفه بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"[42].


فالمقصود بالعلم هنا هو الإدراك سواء كان يقينا أو ظنا.


فقوله له الأحكام جمع حكم- والحكم الشرعي "هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا"[43].


وقوله: العلم بالأحكام خرج العلم بالذوات والصفات.


وقوله: الشرعية: خرجت الأحكام الحسية والأحكام العقلية: كالشمس محرقة والواحد نصف الاثنين.


وقوله: العملية، خرجت الأحكام الاعتقادية والأخلاقية.


وقوله: المكتسب- أي المستنبط بالنظر والاجتهاد في الأدلة الشرعية- خرج "علم المقلدين لأنه غير مكتسب عن طريق النظر والاستدلال"[44].


وقوله: الأدلة التفصيلية: المراد ما جاء به القرآن والسنة والإجماع والقياس ونحوها من المصادر التبعية الأخرى.


أما موضوع الفقه فهو يشمل كل أفعال المكلفين من خلال ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية.


وعموما فالفقه هو: ذلك العلم الذي ينظم حياة الفرد المسلم والجماعة المسلمة والدولة المسلمة ويضبط علاقاتها بالأحكام الشرعية سواء علاقاتها مع خالقها أو نفسها أو مع غيرها، سواء  كان هذا الغير من المسلمين أو غير مسلمين، مسالمين أو محاربين.





المبحث الثاني: الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية والضابط


المطلب الأول: الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية


 من خلال مقارنتنا بين التعريفين اللذين وضعهما العلماء للقاعدتين: الفقهية والأصولية يتبين لنا أن القاعدتين تتشابهان في كون كل منهما قضية كلية ينطبق حكمها العام على جميع جزئياتها التي تندرج تحتها، كما يتفرع عن كلاهما الفروع والجزئيات الفقهية.


غير أن هذه المشابهة بين القاعدتين لا يزيل الفروق الموجودة بينهما حيث يجد الباحث اختلافات كثيرة بين القاعدتين: الفقهية والأصولية في أمور عدة.


النوع الأول:[45] الاختلاف من حيث الحقيقة


تختلف حقيقة القاعدة الفقهية على حقيقة القاعدة الأصولية من حيث أن القاعدة الفقهية في حقيقتها بيان لحكم شرعي كلي تفرع عنه الكثير من الأحكام الشرعية الجزئية التي ترتبط بالكلي.


أما القاعدة الأصولية: فهي ليست بيانا لحكم شرعي كلي وإنما هي قواعد استدلالية تبين الحكم الشرعي. أي أن القاعدة الأصولية هي: أداة يستعملها المجتهد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. أما القاعدة الفقهية فهي تطبيق لما يتوصل إليه المجتهد من الأحكام الشرعية بعد بذل الجهد والوسع.


وقد مثل لذلك فضيلة الشيخ العلامة الدكتور محمد التاويل[46] حفظه الله بالقاعدة الأصولية "كل أنثى لا تعقد نكاح أنثى" فهي مستخرجة من حديث" لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"[47] فهذه الصيغة هي صيغة نفي وهي هنا بمعنى النهي على طريق المجاز والنهي كما نعرف يفيد التحريم ويفيد الفساد والتعريف في "لا تزوج المرأة المرأة..." يفيد العموم والنتيجة أن المجتهد يتوصل إلى أن المرأة لا يمكنها أن تزوج المرأة" كل أنثى لا تعقد نكاح أنثى" فالفقيه يأخذ هذا الفقه المستنبط لأن النص ينطبق على النوازل والوقائع التي تعرض عليه.


هكذا نخلص إلى أن القواعد الأصولية خاصة بالمجتهد يستعملها لاستنباط الأحكام الفقهية ومعرفة الوقائع والنوازل المستجدة من المصادر الشرعية.


أما القواعد الفقهية فهي خاصة بالمجتهد أو المفتي الذي يرجع إليها لمعرفة الحكم الموجود في  الفروع.








النوع الثاني: الاختلاف من حيث المصدر


إن مصدر القاعدة الأصولية يختلف عن مصدر القاعدة الفقهية إذ إن القواعد الأصولية "ناشئة في أغلبها عن الألفاظ العربية والقواعد العربية والنصوص العربية"[48].


أما القواعد الفقهية فتتنوع مصادرها فقد يكون مصدرها:


من الكتاب: بمعنى أننا من القرآن نستنتج القاعدة مثل قاعدة "الحرج مرفوع" فهي مستنبطة من قوله تعالى  [ وما جعل عليكم في الدين من حرج ][49] وكذلك قاعدة "الضرر يزال"


فإنها مشتقة من قوله تعالى: [ من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار][50] أو من السنة الشريفة: حيث أن الفقهاء يأخذون لفظ الحديث ويتخذونه قاعدة كلية مثل حديث "لا ضرر ولا ضرار"[51] فهو لفظ حديث معدود في القواعد الفقهية الكلية وأحيانا قد تكون القاعدة الفقهية مستنبطة من السنة لكنها لا تكون بنفس اللفظ الذي ورد به الحديث النبوي مثل قاعدة "الغنم بالغرم" المستمدة من حديث "الخراج بالضمان"[52].


وقد يكون مصدرها من الإجماع كقاعدة "لا اجتهاد مع النص" فقد استفادها العلماء من إجماع الصحابة[53].


"كما يمكن أن يكون مصدر القاعدة الفقهية مجموعة من المسائل الفقهية التي تجمعها علاقة جامعة بينهما مثل قاعدة "يغتفر في البقاء مالا يغتفر في الابتداء" ويأتي ذلك في إجارة المشاع فإن إجارته فاسدة ابتداء ولكن لو أن إنسان أجر بيتا ثم استحق منه قسم شائع فإن الإجارة تبقى في الحصة الباقية على صحتها، وكذلك لو أجر البيت كله ثم فسخ الإجارة في جزء شائع جازت الإجارة فيما بقي لأن الشيوع الطارئ لا يفسد الإجارة[54].


النوع الثالث: الاختلاف من حيث الأسبقية


"إن القواعد الأصولية هي قواعد سابقة في الوجود على الفقه من حيث الترتيب المنطقي ولذلك كانت القواعد الأصولية ميزانا وضابطا لاستنباط الأحكام التي يستثمرها الفقيه"[55] وبهذا يظهر أن القواعد متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع لأنها جمع لأشتاتها وربط بينها، وجمع لمعانيها، أما الأصول فالفرض الذهني يقتضي وجودها قبل الفروع، لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه  بها عند استنتاجه: ككون ما في القرآن مقدم على ما في السنة وأن نص القرآن أقوى من ظاهره وغير ذلك من مسالك الاجتهاد[56].


النوع الرابع: الاختلاف من حيث توقف الحكم الشرعي عليها


إن القاعدة الأصولية لا يمكن أن يؤخذ منها الحكم الشرعي مباشرة بل لابد أن يكون معها دليل تفصيلي. مثال ذلك، قاعدة: الأمر للوجب فهذه القاعدة الأصولية لا يمكننا أن نأخذ منها وجوب أي فعل أو قول لأنها لا تدل بذاتها صراحة على أي حكم لكنها يمكن أن تدل على حكم ما إذا أضيفت إلى دليل تفصيلي مثل قوله تعالى: [ وأن أقيموا الصلاة واتقوه][57] فإننا نستنبط منها حكما شرعيا وهو وجوب أداء الصلاة بينما القاعدة الفقهية يمكننا أن نأخذ منها حكما شرعيا مباشرة من غير الحاجة إلى إضافة دليل تفصيلي إليها مثال ذلك قاعدة: الأمور بمقاصدها فهذه القاعدة الفقهية نأخذ منها أن النية واجبة للصلاة والوضوء والعبادة أخذا مباشرا.


وهكذا فبما أن القاعدة الفقهية تدل على الحكم الشرعي من غير إضافة دليل تفصيلي إليها وبما أن دورها كما سبقت الإشارة إليه هو تطبيق ذلك الفقه الذي استنبطته وأنتجتته القاعدة الأصولية. وما دامت القاعدة الفقهية تستند إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع... فإنها تكون حجة صحيحة في تقرير الحكم بالنسبة للمفتي، لكن هناك من يرى أن القاعدة الفقهية لا يعتمد عليها ولا ثقة في أحكامها لأنها أغلبية يدخلها الاستثناء، والاستثناء يشكك في القضايا والنوازل الواقعية.


      فمثلا القاعدة الفقهية: كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم فإذا أخذنا هذه القاعدة على عمومها قد يفتى الإنسان بأن الإمام إذا غلبه الحدث أو تذكره تبطل صلاته وصلاة من وراءه، فقبل أن يقف الإمام على هذا الاستثناء وهو: إلا في سبق الحدث ونسيانه، فقد تخدعه القاعدة ويفتي بحكم لا يتناوله عموم القاعدة. هذا الاحتمال بوجود الاستثناء في بعض القواعد معناه أننا أمام فقه مشكوك فيه، ومعناه أنه ليس المشكوك في القاعدة بل المشكوك في تناوله لهذه الجزئية بعينها فعلى المفتي أن يبحث عن الجزئية التي يريد أن يفتي فيها حتى يقف عليها بخصوصها. وبهذا لا يبقى للقاعدة الفقهية قيمة لأنها إذا لم تكن حجة تسهل على المفتي مهمته، فلما يشغل نفسه بتحصيلها، "ولكن الإمام الشاطبي  رحمه الله خالف هذا ورأى أن الاستثناء لا يقدح في حجية القاعدة، لأن الاستثناء فيه حكم للأصل، لأن الذي استثنى هو الذي عليه أن يثبت أن هذا الفرع لا تتناوله القاعدة وليس صاحب الأصل هو الذي عليه أن يثبت دخول الفرع تحت"[58].


النوع الخامس: الاختلاف من حيث الاطراد والعموم


إننا بمجرد مقارنة كل من تعريف القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية يتبين لنا جليا وبوضوح أن القاعدة الأصولية مطردة ولا يوجد فيها استثناء، أما القاعدة الفقهية فهي أغلبية لوجود الاستثناء فيها. فالقواعد الأصولية كلية تنطبق عليها جميع جزئياتها.أما القواعد الفقهية فإنها أغلبية ويكون الحكم فيها على أغلب الجزئيات كما تكون لها مستثنيات.


 هذه هي أهم الفروق- التي أوردها العلماء ومن ألفو في هذا المجال- الموجودة بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية. "على أن هذه الفروق قد تتلاشى حيث تجمع القاعدة بين كونها أصولية وقاعدة فقهية في آن واحد مثل قاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة" وقاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وقاعدة "لا ينسب لساكت قول". وقاعدة "القادر على اليقين هل له على الاجتهاد والأخذ بالظن؟" وقاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان" حيث أنها قواعد فقهية، من حيث تعبيرها عن حكم كلي فقهي وهي قواعد أصولية  من حيث اتصالها بقاعدة من قواعد الأصول"[59].


وعموما فإن التمييز بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، والتفريق بينهما كان أول من أشار إليه شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه الفروق حيث جاء فيها ما يلي:


"فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا اشتملت على أصول وفروع وأصولها قسمان:


أحدهما: المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للتحريم ونحو ذلك.


والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة مالا يحصى ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنا على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل"[60].


فماهي إذن أهم الفروق والاختلافات الموجودة بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي؟





المطلب الثاني: الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي


إن الحديث عن الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي من المواضيع التي اختلف حولها العلماء قديما وحديثا.


فهناك طائفة من العلماء ترى بأن هناك اختلاف بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي وهذا التفريق مبني على شمول القاعدة وضيق الضابط في حين هناك طائفة من العلماء لا ترى وجود فارق بين القاعدة والضابط بل هما مترادفان.


فمن العلماء الذين قالوا بالرأي الأول- أي بوجود الاختلاف – نجد السيوطي يبين الفرق بينهما بقوله : "القاعدة تجمع فروعها من أبواب شتى والضابط يجمع فروع باب واحد"[61]. كما نجد ابن نجيم يعطي تعريفا قريبا من هذا المعنى فيقول: والفرق بين القاعدة والضابط: أن القاعدة تجمع فروعا من أبواب شتى والضابط يجمعها من باب واحد"[62].


أما العلماء الذين قالوا بالرأي الثاني- أي بعدم وجود اختلاف – فيمثلها الفيومي الذي فسر القاعدة بالضابط[63].


وخلاصة القول أن جملة الفروق الموجودة بين الضوابط الفقهية والقواعد الفقهية هي: أن مجال الضوابط الفقهية أضيق من مجال القواعد الفقهية، إذ أن نطاق الضوابط لا يتخطى الموضوع الفقهي الواحد، الذي يرجع إليه بعض مسائله، أما القواعد الفقهية فهي تجمع فروعا من مواضيع فقهية شتى. "ثم إن القاعدة في الغالب متفق عليها بين المذاهب أو أكثرها وأن الضابط يختص بمذهب واحد إلا ما ندر. بل منه ما يكون وجهة نظر داخل المذهب الواحد حيث يختلف الفقهاء حول الضابط الواحد"[64].


بالإضافة إلى أن القواعد الفقهية أمر كلي مبني في الغالب على دليل وأما الضابط فهو أمر كلي لا يعتمد على دليل. إلا أن الدكتور عبد الهلالي يرى أن الضابط الفقهي هو جزء من القاعدة الفقهية ذلك "إن الضابط يمثل مرتبة من مراتب القاعدة، حيث إن القواعد الفقهية لها مراتب من حيث شمولها واستيعابها للجزئيات الفقهية، فمنها القواعد الفقهية الكبرى التي تشمل قواعد كلية أو فرعية أخرى كقاعدة " الأمور بمقاصدها" التي تدخل فيها جزئيات كثيرة كقاعدة "لا ثواب إلا بنية"[65] ليخلص الدكتور إلى أن التفريق بين القواعد الفقهية والضوابط الفقهية تفريق تقريبي لا قطعي.


المبحث الثالث: نشأة القواعد الفقهية


إن مجرد إلقاء نظرة على القواعد الفقهية وطريقة صياغتها وشكلها التي وجدت عليه وخاصة القواعد الفقهية الكبرى، يتضح بما لايدع للريب سبيلا أن جزءا من هذه القواعد مستنبطة من القرآن أو السنة النبوية إما باللفظ والمعنى أو بالمعنى فقط.


فمن الآيات التي أخذها العلماء على هيئتها التي نزلت بها وصاغوها قاعدة فقهية. فقوله تعالى [ وأحل الله البيع وحرم الربا][66].


وهناك عدد كثير من الآيات استنبط منها الفقهاء قواعد فقهية منها: قوله تعالى: [ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر][67] .  فمن هذه الآية الكريمة أخد الفقهاء القاعدة الفقهية الكبرى "المشقة تجلب التيسير".


ومن قوله تعالى [ وما جعل عليكم في الدين من حرج][68] اقتبس العلماء قاعدة فقهية كبرى هي شبيهة بالقاعدة السابقة في المضمون وهي قاعدة "الحرج مرفوع".


كذلك استنبط العلماء من قوله تعالى: [ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه][69] قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".


إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي صاغها الفقهاء على شكل قواعد فقهية أو اعتبرت مادة خصبة لاستخراج القواعد الفقهية.


أما السنة النبوية فهي الأخرى تشتمل على أحاديث استعملها الفقهاء على هيئتها التي جاءت بها وجعلوها قواعد فقهية من ذلك.


قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"[70] هذا الحديث الشريف جعله الفقهاء قاعدة فقهية، كما استنبطوا منه قواعد كثيرة مثل "الضرر يزال" والضرر لا يزال بالضرر" و "يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام". وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان"،[71] فهي قاعدة جاهزة اعتمدها الفقهاء بلفظها وصياغتها.


أما الأحاديث التي استنبط منها الفقهاء قواعد فقهية كثيرة أهمها: قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات"[72] فعلى هذا الحديث اعتمد الفقهاء في صياغة القواعد التي لها علاقة بالنية مثل القاعدة الكلية "الأمور بمقاصدها" "ولا تواب إلا بنية" و "العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني" و"إنما لكل امرئ ما نوى".


من هذه الأمثلة السابقة يتضح لنا أن البذرة الأولى للقواعد الفقهية كانت في عصر الرسالة أو عصر التشريع حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنطقه الله بجوامع الكلم. كانت أحاديثه التشريعية في أغلب الأحكام بمثابة القواعد العامة التي تنطوي تحتها فروع فقهية كثيرة.


وهذا ما أكده الدكتور الروكي: بقوله " يمكن أن أقرر- بكل اطمئنان- أن القواعد الفقهية الكلية نشأة منذ نزول القرآن الكريم وصدور السنة النبوية إلا أنها كانت في غاية العموم والسعة"[73].


وإذا انتقلنا من عصر النبوة ونزول الوحي إلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم وجدنا أن الكثير من المجالس التي كانوا يقيمونها والرسائل التي كانوا يبعثونها إلى ولاتهم في الأمصار المختلفة وفتاواهم في الأمور المعروضة تصلح لأن تكون أو تصاغ منها قواعد فقهية كلية والتي جاءت متأثرة بالقرآن والسنة النبوية.


وعلى سبيل المثال القول المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه المروي في صحيح البخاري "مقاطع الحقوق عند الشروط"[74] فرواية عمر هذه تعتبر قاعدة في باب الشروط[75].


فجميع هذه الآثار والمرويات أمارة ظاهرة على وجود القواعد الفقهية في عصر الرسالة – أي فترة نزول الوحي- وعصر الصحابة. الذين كانوا ينطقون بكلمات لا تخص موضوعا واحدا أو قضية معينة بل يمكن إجراؤها في كثير من المواطن وعلى هذا المنهج سار خلفهم من التابعين.


وإذا انتقلنا من هذه المرحلة إلى عصر أئمة الفقهاء نجد بأن هذا العصر كان الانطلاقة الفقهية باعتبارها فنا  مستقلا بذاته ولعل السبب في ذلك كما يرجع أحمد الندوي هو بروز ظاهرة التقليد في القرن 4 هـ حيث اضمحل الاجتهاد وتقاصرت الهمم في ذلك العصر[76] حيث اقتصر المقلدون من أتباع هذه المذاهب على ما خلفه أئمتهم من نزوة فقهية عظيمة نشأة من تدوين الفقه وبما خلفه الفقهاء من أحكام اجتهادية معللة أغلقت باب الاجتهاد على الذين أتوا من بعدهم واقتصروا على أن يخرجوا من فقه المذاهب أحكاما للأحداث الجديدة. مما أدى هذا التخريج إلى اتساع الفقه ونموه.


وممن يرجع لهم الفقهاء أسبقية الخوض في هذا المضمار هم فقهاء الحنفية ولعل ذلك للتوسع عندهم في الفروع وأخذ بعض الأصول عن فروع أئمة مذهبهم[77] فمذهب أبي حنيفة هو الأسبق ظهورا وتأسيسا من غيره من المذاهب الفقهية الأخرى وأقدم ما وصلنا من كتب القواعد الفقهية، هو كراسة صغيرة للفقيه الحنفي أبي الحسن الكرخي المتوفي سنة 340 هـ وهي تظم مجموعة من القواعد الفقهية العامة على مذهب أبي حنيفة[78].









































الفصل الثاني:





قاعدة المشقة تجلب التيسير:


شرحها، تأصيلها، تعريف الرخصة، أنواع الرخصة، أسباب التخفيفات الشرعية، بعض القواعد المندرجة تحت قاعدة المشقة تجلب التيسير





 قال تعالى [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعموه إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ][79] من خلال هذه الآية الكريمة يتبين لنا أن الغاية والهدف من الوجود الإنساني، هو عبادة الله تعالى وإقراره بالربوبية، وإخلاص النية له، واستخلافه في هذه الأرض وعمارتها. وذلك كله بما يوافق أمره ويبلغ رضاه. لا بما يوافق هوى الإنسان ومبتغاه لأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.


وعبادة الله تعالى واستخلافه في الأرض وعمارتها. كل ذلك يكون بإتباع أوامره جل وعلى. كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وغيرها من الواجبات الدينية. وبالمحافظة على الأمور التي ندب القيام بها كالنوافل وسائر التطوعات.


وكذلك باجتناب نواهيه، كتحريم الشرك، وعقوق الوالدين، وشرب الخمر والظلم. وغيرها من النواهي الشرعية، وبالابتعاد ما أمكن عن الأمور التي كرهها ودعا إلى تركها والابتعاد عنها.


غير أن اجتناب النواهي يختلف عن إتباع الأوامر. ذلك أن اجتناب النواهي لا تترتب عليه أدنى مشقة أو حرج بينما الأوامر التي طلب الشارع من المكلف القيام بها غالبها-أو كلها- تنتج عنها مشقة، لكن هذه المشقة يكون بمقدور المكلف القيام بها. إذ لا يتصور التكليف بما لا يطاق. ذلك أن شرط التكليف هو قدرة المكلف على القيام بما كلف به"فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا".[80]


فالعبادات التي طلب الشارع المكلف القيام بها لا تخلو من مشقة إذا ما قورنت بعدمها لكن هناك أنواع من المشقة، فهناك اللازمة للعبادة والغير اللازمة لها. وهناك المشقة الخفيفة وهناك المشقة الفادحة العظيمة.


إلا أن الشارع رعاية منه لمصالح العباد، ودفعا لما قد يلحق بهم من أضرار بسبب مزاولتهم لهذه العبادات. فقد شرع لهم مجموعة من الرخص في حال ما إذا شق عليهم القيام بنوع من العبادة. وكانت تلك المشقة معتبرة شرعا، وموجب شرعيا للتخفيف. إذ ليس كل مشقة تلحق المكلف تقتضي التخفيف. بحيث لو كان الأمر كذلك، فما غاية تكليف الإنسان وإجباره القيام بأمور لا تلحق به أدنى مشقة. غير أن ذلك لا يعني مطلقا أن الشارع قصد إعنات المكلف، فالمشقة ليست مطلوبة لذاتها. كما أن الثواب يعظم ويزداد بقدر ما تعظم وتزداد المشقة في العبادة.


إذن ما هي المشقة المعتبرة شرعا؟ وما هو الفرق بين المشقة التي تكون سببا في التخفيف أي التي تسقط بسببها العبادة. وبين المشقة التي لا ينجم عنها التخفيف ولا تسقط العبادة؟ وأين تتجلى رحمة الشارع بالمكلفين في مجال العبادات؟ هذه الأسئلة وغير ستكون محور كلامنا في الفصل الثاني من هذا البحث راجين من الله التوفيق والسداد.


المبحث الأول: تعريف قاعدة المشقة تجلب التيسير وتأصيلها


المطلب الأول: تعريف قاعدة المشقة تجلب التيسير.


لقد اشتملت العديد من كتب الفقه على قواعد جليلة وضوابط راشدة تؤصل لمنافذ اليسر وفسح التخفيف في دين الله تعالى، حتى إذا ولج المكلف مضيقا من مضايق الحرج والعسر وجد أمامه من الرفق واليسر، والتخفيف ما يراعي أعذاره ويدفع عنه أسباب الحرج. وأول ما يصادفنا في كتب القواعد ما له صلة وثيقة بهذا الباب، القاعدة الكبرى:"المشقة تجلب التيسير"."حيث عدها العلماء واحدة من خمس قواعد ينبني عليها الفقه، وتدور عليها الأحكام، وتتخرج عليها جميع رخص الشرع وتخفيفاته"[81]. فما معنى هذه القاعدة لغة واصطلاحا؟.


- المشقة:" مفعلة من الشق بالفتح والكسر وهو:الجهد، والعناء، والانكسار الذي يلحق البدن، ومنه قوله تعالى: [ونحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس[82]][83]أي إلا بجهد الأنفس" ويقال شق علي الأمر يشق شقا ومشقة أي ثقل علي والاسم الشق. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"[84] :أي لولا أن أثقل على أمتي من المشقة وهي الشدة"[85].


- الجلب:"سوق الشيء من موضع إلى آخر، وجلبه يجلبه واجتلبته: وجلبت الشيء إلى نفسي بمعنى"[86].


- التيسير:اليسر اللين والانقياد وياسره أي ساهله. وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يسروا ولا تعسروا"[87]. واليسر ضد العسر. قال ابن سيده: وتيسر الشيء واستيسر تسهل.


والتيسير يكون في الخير والشر قال تعالى [ فسنيسره لليسرى][88] هذا في الخير قال أيضا [ فسنيسره للعسرى][89] وهذا في الشر.


أما من الناحية الاصطلاحية: فقد عرفها الشاطبي المشقة بتقسيمها إلى أربع معان[90].


أولها: مطلق كتكليف ما لا يطاق فإنه يسمى مشقة. مثل تكليف المقعد بالقيام. وتكليف الإنسان بالطيران في الهواء. وهذا النوع لم يقع التكليف به ولم يقصده الشارع.


ثانيها: مشقة خاصة بالمقدور لكنها خارجة عما اعتاده الناس في أعمالهم العادية. بحيث يشوش على النفوس في تصرفها، إلا أن هذا النوع على ضربين


- الأول: أن تكون المشقة موجودة في عين الفعل، وإن لم تتكرر كالصوم في المرض والسفر. وهذا النوع قد شرعت له الرخص.


- الثاني: ألا تكون المشقة موجودة فيه، ولكنها تنشأ من الدوام عليه... وهذا يوجد في النوافل إذا داوم الإنسان عليها، بحيث يتحمل فيها فوق ما يتحمل عادة.


- ثالثهما: مشقة خاصة بالمقدور، إلا أن التعب الناتج عنها لم يخرج عما اعتاده الناس في الأعمال العادية فهي لا تعتبر في ذاتها مشقة ولكن التكليف بالفعل المشتمل عليها يقتضي من العبد التزامه. وهذا الالتزام شاق على النفس.


رابعهما: مشقة مجاهدة النفس ومحاربة هواها وشهواتها وهذه قد تنشأ من التكليف ببعض الأفعال. كالصوم فإن فيه محاربة شهوة الأكل والشرب والوطء. ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء.


وعموما فإن معنى القاعدة في الاصطلاح: أن المشقة المعتبرة شرعا متى وجدت في أمر من الأمور كانت سببا شرعيا في جلب التيسير والتخفيف للمكلف. وذلك بتسهيل الحكم الشرعي والتخفيف منه.


وإلى ذلك أشار الندوي بقوله:"فهذه القاعدة فيها تفسير للأحكام التي روعي فيها التيسير والمرونة. وأن الشريعة لم تكلف الناس بما لا يستطيعون، أو بما يوقعهم في الحرج. وبما لا يتفق مع غرائزهم وطبائعهم وأن المراعاة والتيسير والتخفيف مرادة ومطلوبة من الشارع الحكيم"[91] .


المطلب الثاني: تأصيل القاعدة


الفرع الأول: من الكتاب


لقد قامت الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة من الكتاب حتى صار ذلك مقطوعا به في الدين الإسلامي الحنيف، ومشروعية الرخص تشير كلها، إلى أن الله تعالى شرع الأحكام ميسرة سهلة مبنية على اليسر والسماحة: قال الشاطبي" إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع"[92] .


وقاعدة المشقة تجلب التيسير وهي قاعدة فقهية صارت أصلا مقطوعا لتوافر الأدلة عليها من الكتاب والسنة والإجماع.


حيث أن مضمون هذه القاعدة أصبح من القضايا المسلمة بين علماء المسلمين من غير نزاع. وهكذا نجد أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله يقدم الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع. ومن عموميات الشريعة التي تنفي الحرج عن هذه الأمة يقول رحمه الله والدليل على ذلك عدة أمور.


أحدها: النصوص الدالة على ذلك: كقوله تعالى [ ويضع عنهم إسرهم والأغلال التي كانت عليهم][93]. وقوله أيضا: [ ربنا ولا تحمل علينا إسرا كما حملته على الذين من قبلنا][94] وقوله سبحانه وتعالى: [ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها][95] وقوله: [ وما جعل عليكم من حرج] [96] وقوله أيضا [ يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر] [97]وقوله جل وعلى: [ ما يريد ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم][98] كما قال تعالى: [ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا] [99] .


وما إلى ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر والتخفيف. ولكان مريد للحرج والعسر وذلك باطل[100] .





الفرع الثاني: أما في مجال السنة المطهرة


 فإذا تصفحت الأحاديث وجدت كثيرا منها تشير إلى معاني هذه القاعدة الشرعية. وليس أدل على ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم"بعثت بالحنيفية السمحة"[101]،


وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاذ الدين أحد إلا غلبة. فسددوا ووقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغذوة والروحة وشيء من الدلجة"[102].


ومن هذا الباب ما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"[103] .


وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله: لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ فقال:"يا أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة"[104]


وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال ما يطيقون"[105].


ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يترك الأمر مخافة أن يكون فيه مشقة على أمته.








فمن الأحاديث الجليلة في هذا المعنى، قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل"[106].


وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:"أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء، فخرج عمر، فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر فقال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة"[107]. واضح من الآيات الكريمة-السابقة- والأحاديث الشريفة أن الله تعالى جاء بهذا الدين يسيرا، حيث لا توجد أدنى مشقة في تنفيذ تعاليمه الحميدة. فالإنسان يقدر بقدرته وطاقته التي وهبها الله له. أن ينفذ هذه التعاليم النظيفة عارية من كل ضيق أو حرج. يضيف الشاطبي رحمه الله:


والثاني: ما تبث من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به، ومعلوم من دين الله بالضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع وتناول المحرمات يدل قطعيا على مطلق رفع الحرج والمشقة. وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق في التكليف، والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف، لما كان تم ترخيص ولا تخفيف.


والثالث: الإجماع على عدم وقوعه –يعني الحرج- وجودا في التكليف، وهو يدل على قصد الشارع إليه، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف وذلك منفي عنها[108].


المطلب الثالث: الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها


إن أفعال المكلف في حياته سواء أفعاله التعبدية أو أفعاله التي يقوم بها في طلب معاشة كل ذلك لا يخلوا من مشقة. إلا أن المشقة على مراتب: منها الخفيفة ومنها العظيمة.


 وبما أن ديننا الحنيف دين يسر، فإنه جاء لرفع المشقة على المكلف والتخفيف عليه بما يمكنه من القيام بواجباته الدينية دون إعنات، أو مشقة. لكن ليست كل مشقة ناجمة عن ممارسة المكلف لأفعاله التعبدية تكون سببا في تخفيف هذه المشقة عنه. لأن مجرد التكليف يستلزم المشقة: إذ هناك مشقة لازمة للعبادة لا تنفك عنها، وبدون هذه المشقة لا يكون المكلف ممارسا لتلك العبادة، لكن هناك مشقة فادحة عظيمة تضيق بها الصدور. فهذه المشقة موجبة للتخفيف والترخيص. فما هو ضابط الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها؟ وبعبارة أدق ما هي المشقة المؤثرة في التخفيف؟


إذا رجعنا إلى كتاب الفروق للقرافي نجده يعطينا إجابة كافية على هذا السؤال حيث يوضح الفرق بين المشقتين من خلال توضيحه للمعنى الفارق بين هذين النوعين من المشقة-أي المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها-حيث أن هناك من المشاق ما هو جزء من العمل من العبادة نفسها، ومن تم فإن هذا النوع من المشاق لا يوجب تخفيفا ومن باب أولى إسقاطا وهي التي عبر عنها بالمشاق التي لا تنفك عنها العبادة ...أما المشاق التي هي خارجة عن ماهية العبادة فهي التي تؤثر في العبادة.


يقول ابن الشاط في هامش الفروق، في الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها "التكليف بعينه مشقة، لأنه منع الإنسان من الاسترسال مع دواعي نفسه، وهو أمر نسبي، وبهذا الاعتبار سمي تكليفا. وهذا المعنى موجود في جميع أحكامه، حتى الإباحة.. وبعض تلك المشاق هو أعظم المشاق كما في الجهاد الذي فيه بد ل النفس فبحسب ذلك انقسمت المشاق بالنسبة إلى التكليف إلى نوعين: نوع وقع التكليف بما يلزمه عادة. أو في الغالب أو في النادر. ونوع لم يقع التكليف بما يلزمه فالنوع الأول لا يؤثر في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقض التكليف والنوع الثاني يؤثر لأنه لا ينقض التكليف".[109]


وهكذا فالمشقة المعتبرة شرعا أي: التي تكون سببا في التخفيف أو إسقاط العبادة، تقع على ثلاث أنواع وفي هذا يقول القرافي"وتحرير الفرق بينهما-يعني قاعدتي المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها- أن المشاق قسمان:


القسم الأول: لا تنفك عنه العبادة، كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل والحار والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه مقرر معها ولا توجد ولا تكون معتبرة بدونه لأنه لا يمكن أن يمارس هذه العبادة دون أن تلحقه هذه المشقة.


القسم الثاني: المشاق التي تنفك عنها العبادة وهي ثلاثة أنواع:


أ- نوع في المرتبة العليا كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع، فيوجب التخفيف لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة.


ب- نوع في المرتبة الدنيا: كأدنى وجع في أصبع فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة، لشرف العبادة وخفة هذه المشقة.


ج- النوع الثالث: مشقة بين هذين النوعين فما قرب من العليا أوجب التخفيف وما قرب من الدنيا لم يوجبه. وما توسط هذين النوعين يختلف فيه لتجاذب الطرفين له"[110].


من خلال كلام القرافي هذا لا بد من الإشارة إلى نقطة هامة تضمنها كلامه وهي ربطه لموضوع المشقة بالمقاصد. فبعد أن قسم المشقة التي تنفك عنها العبادة إلى ثلاث أنواع. نوع في المرتبة العليا يوجب التخفيف ونوع في المرتبة الدنيا لا يوجب التخفيف ونوع وسط بين النوعين. نجده يعلل جلب النوع الأول للتخفيف وجوبا تعليلا مقاصديا وذلك ما أشار إليه بقوله:"لان حفظ هذه الأمور –النفوس والأعضاء والمنافع- هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة"[111].


وعموما فقد أعطى الشاطبي رحمه الله الضابط الذي يمكن بواسطته بيان الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها. وهو أنه إذا كان العمل يؤدي الدوام والمواظبة عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه: سواء في نفسه، أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد- وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته...[112] .


وإذا ثبت من كل هذا أن المشاق نوعان: مشقة خفيفة ومشقة عظيمة: الأولى لا توجب الإسقاط ولا التخفيف والثانية مشقة معتبرة شرعا تسقط بسببها العبادة أو يلحقها التخفيف فإن دل كل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الشارع الحكيم لم يكن قاصدا من خلال هذه التكاليف التي ألزم العباد بها وإلى إحراج المكلفين وإعناتهم. ومما يوضح ذلك :الرخص الكثيرة التي أباحها الشرع في حال حصول مشقة للمكلف حتى يسهل عليه أداء عبادته على الوجه المطلوب، ومن غير إلحاق ضرر به، لأن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، والغاية من ذلك تحقيق عبودية الله تعالى.


وإذا ثبت كذلك أن الشارع لم يكن قاصدا للمشقة في التكليف فوجود هذه المشقة في العبادة. ليس بالأمر المعاب، ذلك أن الثواب يعظم بعظم المشقة في العبادة.


إذا تتبعنا النصوص الواردة في القرآن والسنة المطهرة نجد مجموعة من الأدلة على رفع المشقة في هذا الدين الحنيف غير أنه كلما صبر الإنسان على تحمل هذه المشقة –شريطة ألا تكون سببا له في انقطاعه عن العبادة – كلما زاد أجره وعظم ثوابه. لكن إذا أصبحت هذه المشاق العظيمة تهدد المكلف في نفسه أو أعضائه تتدخل رحمة الشريعة بمجموعة من الرخص لرفع الحرج عنه- فما هو المقصود بالرخصة؟ وما هي أنواعها وأسبابها؟





المبحث الثاني: تعريف الرخصة أنواعها أسباب التخفيفات الشرعية وأنواعها


المطلب الأول: تعريف الرخصة وبيان أنواعها.


الفرع الأول: تعريف الرخصة


ينقسم الحكم[113] إلى عزيمة ورخصة


فالعزيمة هي ما شرع من الأحكام العامة ابتداءا، ومعنى عموم الحكم أنه لا يختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون ولا ببعض الأحوال: كالصلاة فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم على كل شخص وفي كل حال. وكذلك الصوم والزكاة والحج وسائر شعائر الإسلام. ومعنى شرعيتها ابتداء أن يكون قصد الشارع به إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير، كان هذا الأخير كالحكم الابتدائي تمهيدا لمصالح الكلية العامة[114].


أما الرخصة: فهي ما شرع من الأحكام لعذر شاق بقصد رعاية حاجة الناس، أو للتخفيف على المكلف في حالات خاصة مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي[115].


فالعذر يدخل تحته الاضطرار، ومشقة السفر، وإباحة ترك الجماعة في الصلاة لمرض أو نحوه، وأمثلة الرخصة: التلفظ بالكفر عند الإكراه، والأكل من الميتة عند الضرورة، فالعذر في الأول: الإكراه، وفي الثاني: هو ضرورة حفظ النفس، هذه الرخص رغم مشروعيتها إلا أن جوازها لا يعني رفع الحكم الأصلي لأن سببه لازال قائما. وهو في الأول مثلا: وجود أدلة وجوب الإيمان وحرمة الكفر. وهو في الثاني: ضرر الميتة أما إذا لم يبقى السبب الموجب للحكم الأصلي فلا يسمى رخصة.








الفرع الثاني: أنواع الرخصة:


تنقسم الرخص في الشرع إلى أربعة أنواع[116]:


- النوع الأول: إباحة الفعل المحرم عند الضرورة والحاجة: كالتلفظ بالكفر عند الإكراه على القتل أو قطع عضو مع اطمئنان القلب بالإيمان لقوله تعالى [ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ][117]، وكالإفطار في رمضان عند الإكراه.


- النوع الثاني: إباحة ترك الواجبات إذا كان في فعلها مشقة تلحق المكلف كإباحة الفطر في رمضان لقوله تعالى[ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر][118].


- النوع الثالث: إباحة العقود والتصرفات التي يحتاج إليها الناس، مع مخالفتها للقواعد المقررة، كعقد السلم، فإنه بيع المعدوم، وبيع المعدوم باطل ولكن الشرع أجازه لحاجة الناس إليه.


- النوع الرابع: رفع الأحكام الشاقة التي كانت مفروضة في الشرائع السابقة والتخفيف فيها على الأمة الإسلامية. كاشتراط قتل النفس للتوبة من العصيان وإيجاب ربع المال في الزكاة.


هذه هي أنواع الرخصة الشرعية، والأخذ بها جائز إلا إذا خاف الإنسان هلاك نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه فإنه يصبح الأخذ بها واجب.


قال الشاطبي رحمه الله:"حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة واستدل على ذلك بعدة أمور.











أحدها: آيات الرخص من نحو قوله تعالى [ فمن اضطر غي باغ ولا عاد فلا إثم عليه][119]. وقوله تعالى:" [ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ][120] وغير ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم من غير أن يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة.


الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف ورفع الحرج حتى يكون المكلف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والرخصة وهذا أصله الإباحة.


الثالث: لو كانت الرخص مأمور بها وجوبا أو ندبا لكانت عزائم لا رخصا لأن الواجب هو الحتم اللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من مطلق الأمر. فإذا يكون الجمع بين الأمر والرخصة جمعا بين متنافيين[121].


والحاصل أن الشريعة الإسلامية جاءت لرفع الحرج والمشقة على المكلف وذلك بتشريع مجموعة من الرخص ليسهل على المكلف القيام بعبادته على الوجه المطلوب شرعا، مع الحفاظ على نفسه وأعضائه سالمة عملا بقاعدة: جلب المصالح أولى من درء المفاسد. فما هي إذن الحالات التي أباح الشرع فيها للمكلف الأخذ بالرخصة؟ وبعبارة أخرى: ما هي أسباب هذا التخفيف؟ وما هي أنواعه؟


المطلب الثاني: أسباب التخفيفات الشرعية وأنواعها:


الفرع الأول: أسباب التخفيفات الشرعية:


أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة.[122]


الأول: السفر: قال النووي ورخصه ثمانية:


-       منها ما يختص بالطويل قطعا: وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة.


-       ومنها ما لا يختص به قطعا، وهو ترك الجمعة وأكل الميتة.


-       ومنها ما فيه خلاف: والأصح اختصاصه به وهو الجمع.


-       ومنها ما فيه خلاف: والأصح عدم اختصاصه به وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم.


واستدرك ابن الوكيل رخصة تاسعة صرح بها الغزالي وهي: ما إذا كان له نسوة وأراد السفر فإنه يقرع بينهن ويأخذ من لها القرعة. ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع. وهل يختص ذلك بالطويل؟ وجهان أصحهما: لا.


الثاني: المرض: ورخصه كثيرة:


التيمم عند مشقة استعمال الماء، وعدم الكراهة في الاستعانة بمن يصب عليه، أو بغسل أعضائه، والقعود في صلاة الفرض، وخطبة الجمعة، والاضطجاع في الصلاة...والجمع بين الصلاتين على وجه... والتخلف عن الجماعة والجمعة مع الفضيلة كما تقدم، والفطر في رمضان، وترك الصوم للشيخ الهرم، مع الفدية، والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة...والتداوي بالنجاسات، والخمر على وجه وإساغة اللقمة بها إذا غص بالاتفاق، وإباحة النظر حتى للعورة والسوأتين.


الثالث: الإكراه:


فيباح للمكره التلفظ بكلمة الكفر، وشرب الخمر، وإتلاف مال الغير، وأكل الميتة، وشرب البول، والفطر في رمضان، ولا يباح له القتل والزنا واللواط.


الرابع: النسيان :


قد يكون في ترك مأمور أو فعل منهي عنه، ليس هو من باب إتلاف، أو فيه إتلاف.


فمن فروع القسم الثاني: فعل منهي عنه وليس من باب الإتلاف: الإتيان بمفسدات العبادة، كالأكل في الصلاة، والصوم، والجماع في الصوم، والاعتكاف، والإحرام، وارتكاب محظورات الإحرام: كاللبس، والاستمتاع، والطيب، ونحوها، فالحكم في الجميع الإفساد، وعدم الكفارة، والفدية، والله أعلم.








الخامس: الجهل بالحكم فإنه مسقط للإثم أيضا:


فإذا أتى بمفسدة للعبادة جاهلا بالحكم، وكان ممن يعذر بجهله كأن كان قريب عهد بالإسلام، أو بعيدا عن العلماء، أو أن الذي يفعله مما يخفى حكمه على مثله، ككون التنحنح مبطلا للصلاة، أو النوع الذي تناوله مفطرا للصوم، ففي هذه الحالة يعذر بجهله، ولا يحكم ما فعله بالبطلان والفساد.


السادس: العسر وعموم البلوى:


كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها، كدم القروح والدمامل والبراغيت، والقيح الصديد وقليل دم الأجنبي... وذرق الطيور إذا عم في المساجد والطواف، ومما يصيب الحب في الدروس من رواث البقر وبوله.


ومن ذلك العفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة، وريق النائم، وفم الهرة، ومن تم لا يتعدى إلى حيوان لا يعم اختلاطه بالناس كما قال الغزالي وأفواه الصبيان، وقليل الدخان أو الشعر النجس ومنقذ الحيوان، ومن تم لا يعفى من منفذ الآدمي لإمكان صونه من الماء ونحوه، وروث ما نشوؤه في الماء المانع.


ومن ذلك: مشروعية الاتجار بالحجر، وإباحة الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة في البنيان، ومس المصحف للصبي المحدث.


ومن ذلك كذلك، الجمع في المطر، وترك الجماعة والجمعة بالأعذار المعروفة، وعدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض لتكررها بخلاف الصوم، وبخلاف المستحاضة لنذرة ذلك وأكل الميتة... وجواز تقديم نية الصوم على أوله، ونية صوم النفل بالنهار ...ولبس الحرير للحكة والقتال.


ومن التخفيف جواز العقود الجائزة، لأن لزومه يشق ويكون سببا لعدم تعاطيها، ولزوم اللازم، وإلا لم يستقر بيع ولا غيره.


ومنه جواز العقد على المنكوحة من غير نظر، لما في اشتراطه من المشقة التي لا يحتملها كثير من الناس في بناتهم، وأخواتهم من نظر كل خاطب، فناسب التيسير لعدم اشتراطه.





السابع: النقص:


فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال، فناسبه التخفيف في التكاليف.


فمن ذلك: عدم تكليف الصبي، والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال، كالجماعة والجمعة، والجهاد والجزية وتحمل العقل، وغير ذلك. وإباحة لبس الحرير وحلي الذهب، وعدم تكليف الأرقاء بكثير مما على الأحرار، ككونه على النصف من الحر في الحدود، والعدد وغير ذلك[123].


الفرع الثاني: أنواع التخفيفات الشرعية


تخفيفات الشرع ستة أنواع.


-   الأول: تخفيف إسقاط. كإسقاط الجمعة، والحج، والعمرة، والجهاد بالأعذار.


-   الثاني: تخفيف تنقيص: كالقصر.


-   الثالث: تخفيف إبدال، كإبدال الوضوء، والغسل بالتيمم، والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع، والإيماء، والصيام بالإطعام.


-   الرابع: تخفيف تقديم، كالجمع، وتقديم الزكاة على الحول، وزكاة الفطر في رمضان، والكفارة على الحنث.


-   الخامس: تخفيف تأخير كالجمع، وتأخير رمضان للمريض والمسافر، وتأخير الصلاة في حق منشغل بإنقاذ غريق أو نحوه.


-   السادس: تخفيف ترخيص، كصلاة المستجمر مع بقية النجو، وشرب الخمر للغصة، وأكل النجاسة للتداوي ونحو ذلك.


-   وقد استدرك العلائي سببا سابعا وهو:


-   تخفيف تغيير: كتغيير نظم الصلاة في الخوف[124]


المبحث الثالث: بعض القواعد المندرجة تحت قاعدة: المشقة تجلب التيسر:


المطلب الأول: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.


الفرع الأول: معنى القاعدة:


هذه القاعدة هي إحدى القواعد الكلية المندرجة تحت القاعدة الكبرى المشقة تجلب التيسر، وقد دلت عليها آيات كثيرة من كتاب الله تعالى منها: قوله تعالى [ فمن اضطر في مخصصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم][125] ومنها قوله تعالى[ إلا ما أضطررتم إليه][126].فقد جاءت هذه الآية بعد تعداد جملة من المحرمات في قوله تعالى: [ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه][127]. ومن الآيات الدالة على هذه القاعدة قوله تعالى [ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان][128]. فاللجوء إلى محظور عند الاضطرار، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه مما عفا الله العباد عنه، وبينه لهم بإنزال آيات بينات. "فهذه القاعدة تعتبر من الأصول المحكمة الأصلية في بناء الفقه الإسلامي وهي دليل في ذاتها على مرونة الفقه ومدى صلاحيته واتساعه لحاجات الناس،[129] و"معنى هذه القاعدة أن المحرم يصبح مباحا إذا واجهت المكلف ضرورة تقتضي ذلك بحيث لا تندفع تلك الضرورة إلا بارتكاب ذلك المحرم، كما إذا اشتد الجوع بالمكلف وخشي الهلاك فإنه يجوز له أكل الميتة ونحوها.وفي معنى هذا أيضا سقوط بعض الواجبات أو تخفيفها بسبب الضرورة"[130].


الفرع الثاني: فروع القاعدة[131].


الأول: جواز أكل الميتة عند المخمصة-أي الجوع-قال تعالى [ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم][132]ومثله إساغة اللقمة في الحلق إذا لم يوجد غيره.


الثاني: التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه مع اطمئنان القلب بالإيمان: قال تعالى[ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان][133].


الثالث: إتلاف المال بالإكراه.


الرابع: اخذ مال الممتنع عن أداء الديون بغير إذنه.


الخامس: دفع الصائر، ولو أدى إلى قتله لكن بعد محاولة صده بالأخف.


السادس: لو عم الحرام قطرا بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة.


السابع: جواز إتلاف أشجار الكفار وبنيانهم لحاجة القتال والظفر بهم وكذا الحيوان الذي يقاتلون عليه-ومثله المركبة والطائرة-.


الثامن: نبش الميت بعد دفنه للضرورة. بأن دفن بلا غسل أو لغير القبلة أو في أرض مغصوبة، أو ثوب مغصوب.


التاسع: غصب الخيط لخياطة جرح حيوان محترم.


الفرع الثالث: ضوابط الضرورة[134]


إذا ما تحققت الضرورة بالمعنى الذي ذكرناه، جاز للمضطر الإقدام على الممنوع شرعا، وسقط عنه الإثم في حق الله تعالى رفعا للحرج عنه، ولكن يلزمه تعويض ما ألحقه من أضرار بحق الآخرين رفعا للحرج عنهما أيضا.


إلا أن عمل المكلف بهذه القاعدة مضبوط بمجموعة من الضوابط منها:


أ- أن يكون الضرر في المحظور الذي يحل الإقدام عليه أنقص من ضرر حالة الضرورة. ولذلك قيد بعض العلماء هذه القاعدة بقولهم "الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها".


ب- أن يكون مقدار ما يباح أو يرخص فيه مقيدا بمقدار ما يدفع الضرورة وعلى ذلك تفرعت قاعدة أخرى وهي "الضرورة تقدر بقدرها"


ج- أن لا تكون للمضطر وسيلة يدفع بها ضرورته إلا مخالفة الأوامر أو النواهي: أي ألا تكون له وسيلة مشروعة يستطيع بها دفع ضرورته.


د- أن يكون زمن الإباحة أو الترخيص مقيدا بزمن العذر فإن زال العذر زالت الإباحة. ومن هنا جاءت قاعدة "ما جاز لعذر بطل بزواله".


ه- أن لا يكون الاضطرار مبطلا لحق الغير حيث إن "الضر لا يزال بالضرر" .


و- أن تكون الضرورة قائمة بالفعل لا متوهمة أو متوقعة: أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال أو غيرها.


المطلب الثاني: قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع الأمر ضاق


الفرع الأول: معنى هذه القاعدة


هذه القاعدة هي الأخرى تتفرع عن القاعدة الكبرى المشقة تجلب التيسير، ومما يدل عليها قوله تعالى:[ إن مع العسر يسرا ][135]، كما يستدل بأن الله سبحانه وتعالى خفف عن المؤمنين في حال الخوف فأباح لهم قصر الصلاة، وتغيير أدائها، فقال تعالى:[ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الدين كفروا][136]، وفي حالة ما إذا زال الخوف وعاد الاطمئنان إليهم وجب إتمام الصلاة وأدائها على كيفيتها الأصلية، وذلك حيث قال سبحانه وتعالى[ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ][137].


ومعنى القاعدة انه كلما ظهرت مشقة في أمر يرخص فيه ويوسع، فإذا زالت المشقة عاد الأمر على ما كان عليه في الأول.


ومعنى ذلك أنه إذا حصلت ضرورة عارضة للشخص أو للجماعة أو طرأ ظرف استثنائي، أصبح معه الحكم الأصلي للحالات العادية محرجا للمكلفين، مرهقا لهم بحيث يجعلهم في ضيق عند التطبيق. فإنه يتخفف عنهم ويوسع عليهم حتى يسهل، مادامت تلك الضرورة قائمة فإذا انفرجت الضرورة وزالت عاد الحكم إلى أصله[138].


الفرع الثاني: فروع القاعدة[139]


الأول: إذا فقدت المرأة وليها في سفر، فولت أمرها لرجل جاز.


الثاني: إذا انشتر صنع أواني الخزف من السرجين في بلاد جاز الوضوء منها.


الثالث: إذا جلس الذباب على غائط، ثم وقع على ثوب، فإن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه لا يعفى، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع.


الرابع: إن قليل العمل في الصلاة لما اضطر إليه سومح به، وكثيره لما لم يكن به حاجة، لم يسامح به.


الخامس: قليل دم البراغيت سومح به توسيعا إذا وجد في الثياب، وتصح به الصلاة، ولم يسامح في كثيرة.
































الفصل الثالث:


 تطبيقات قاعدة المشقة تجلب التيسير


في بعض العبادات




















المبحث الأول: الأعذار المبيحة للتخفيف في الصلاة:


الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين والصلة بين العبد وربه، وقد اجمع العلماء على وجوبها على كل مكلف. والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. كما أجمع العلماء على أن منكرها كافر، لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة مثلها مثل بقية الأركان الأخرى:


والصلاة لغة: هي الدعاء، ومنه قوله تعالى [ وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم][140]، أي دعواتك، وسميت هذه العبادة صلاة قيل: مجازا لما اشتملت عليه من الدعاء، وقيل مأخوذة من الصلوين وهما عرقان في الردف ينحنيان في الركوع والسجود، وقيل: إنها مأخوذة من الصلة لأنها تصل بين العبد وربه بمعنى أنها تدينه من رحمته وتوصله إلى كرامته وجنته.


وقد حدها ابن عرفة بقوله:"قربة فعلية ذات إحرام وسلام أو سجود فقط[141]"[142].


أما من حيث مشروعيتها: فهي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.


- أما من الكتاب: فقوله تعالى:[ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة وذلك دين القيمة][143] وقوله تعالى أيضا: [ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بحبل الله هو مولاكم. فنعم المولى ونعم النصير][144] وقال سبحانه وتعالى كذلك: ن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا][145].


- أما من السنة: هناك أحاديث عديدة تدل على وجوب الصلاة. منها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله. وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا)[146].


وفي ما معناه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"[147].


-       أما من الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة، وكفرت منكرها وجاحدها.باعتبارها عمود الدين وأساسه.


لذلك وجب على كل مسلم أو مسلمة أدائها في وقتها وكيفما كانت الظروف والأحوال لكن قد تعرض للمكلف ظروف تجعل من الصعوبة عليه أن يقوم بها إما كلية أو جزئية فجاءته الشريعة بمجموعة من الرخص لتسهل عليه أدائها وترفع عنه الحرج. فما هي هذه الأعذار التي تلحق المكلف وتجعله يجد مشقة في القيام بواجب الصلاة؟.


المطلب الأول: المرض والعجز


الصلاة كتاب موقوت على المؤمنين، فلا يجوز تأخيرها عن الوقت الاختياري لها إلا لعذر شاق خارج عن قدرة الإنسان وإرادته، كالنوم والغفلة، أو الإغماء، أو الجنون أو النسيان.


ومن مظاهر التيسر فيها والحرص على أدائها في أوقاتها: صلاة أصحاب الأعذار، كالمرض والعجزة، فهؤلاء يصلون بالطريقة التي تتناسب مع قدرتهم. لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمران بن حصين رضي الله عنه:"صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"[148].


فالعجز والمرض عذران يخولان للمتصف بهما الصلاة كيفما شاء بحسب ما يتناسب مع قدرته، قاعدا إذا لم يستطع القيام، أو يومئ ويشير برأسه للركوع والسجود إذا لم يستطع القعود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ولا تسقط عنه ما دام في وعيه.


وقال قوم يصلي كيفما تيسر له، وظاهر الأحاديث أنه إذا تعذر الإيماء من المستلقي لم يجب عليه شيء"[149].


قال السيوطي:"فكل عذر أسقط الجمعة إلا الريح العاصف فإن شرطها الليل، والجمعة لا تقام بالليل. والناس في الجمعة أقسام:


الأول: من تلزمه وتنعقد به: وهو كل ذكر صحيح مقيم متوطن مسلم بالغ عاقل حر لا عذر له.


 الثاني: من تلزمه ولا تنعقد به ولكن تصح منه، وهو العبد والمرأة والخنتى والصبي والمسافر.


الثالث: من تلزمه ولا تنعقد به وذلك اثنان: من داره خارج البلد وسمع النداء، ومن زادت إقامته على أربعة أيام وهو على نية السفر.


الرابع: من لا تلزمه وتنعقد به وهو المعذور بالأعذار السابقة[150].


وإذا تأملنا حديث عمران بن حصين –رضي الله عنه- نجد فيه دليل واضح على أنه لا يصلي المصلي الفريضة قاعدا إلا لعذر شاق يصعب معه القيام، بحيث لو قام لحقه ضرر. ولا يجوز للمريض أن يتخذ ما يسجد عليه إذا تعذر سجوده على وسادة:"صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، وأجعل سجودك أخفض من ركوعك"[151]. فقد أرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن يفصل بين ركوعه وسجوده، وذلك بجعله أخفض من ركوعه، فإن تعذر عليه القيام والركوع فإنه يومئ للركوع من قيام. ثم يقعد ويومئ من قعود، وقيل:في هذه الصورة يومئ لهما من قيام يقعد للتشهد.[152]


وللمريض أن يجمع إذا خاف أن يغلب على عقله عند الزوال، وعند الغروب. وإذا كان الجمع أرفق له لبطن به، ونحوه جمع وسط وقت الظهر بين الظهر والعصر، وعند غياب الشفق للمغرب والعشاء، ولا يفصل بين الصلاتين إلا بمقدار الإقامة، ويعفى من الاستنجاء لعدم القدرة لما سبق من العفو عن إزالة النجاسة مع عدم القدرة[153].


وهكذا فإن الشريعة الإسلامية السمحة هيأت للمريض والعاجز جميع الظروف التي تمكنه من أداء عبادة الصلاة حسب استطاعته، وفي كل الظروف. ولا تسقط عليه بحال من الأحوال بما سبق ذكره في أول المطلب من الأعذار.


المطلب الثاني: السفر


السفر هو الآخر سبب من الأسباب الموجبة للتخفيف وذلك على نوعين:


النوع الأول: وهو القصر:


والنوع الثاني: هو الجمع.


الفرع الأول: القصر في السفر


السفر له تأثير في القصر بالاتفاق، فقد اتفق العلماء على جواز القصر للمسافر إلا قول شاذ، وهو: قول عائشة وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى، [ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ][154].


وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه كان خائفا، واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع:


-       الأول: في حكم القصر.


-       الثاني: في المسافة التي يجب فيها القصر.


-       الثالث: في السفر الذي يجب فيه القصر.


-       الرابع: في الموضع الذي يبدأ فيه المسافر بالتقصير.


-       الخامس: في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا قام في موضع أن يقصر فيه.


فأما حكم القصر فإنهم اختلفوا فيه على أربعة أقوال:


فمنهم من رأى أن القصر فرض المسافر المتعين عليه، ومنهم من رأى أن القصر والإتمام كلاهما فرض مخير فيه كالخيار في وجوب الكفارة، ومنهم من رأى أن القصر سنة، ومنهم من رأى أنه رخصة وأن الإتمام أفضل.


قال الحنفية، القصر واجب، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا يجوز له الزيادة عليهما ويجب سجود السهو إن كان سهوا. ودليلهم في ذلك، حديث عائشة، "فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة القصر"[155] وكذلك حديث عبد الله بن عباس "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"[156].


وقال المالكية على المشهور الراجح: القصر سنة مؤكدة، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط.


وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخيير: فللمسافر أن يتم أو يقصر. والقصر أفضل من الإتمام مطلقا عند الحنابلة:"لأنه صلى الله عليه وسلم دوام عليه. وهو عند الشافعية على المشهور أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر.





ودليلهم على ذلك قوله تعال:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"[157] وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عمر رضي الله عنه:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"[158].[159]


أما المسافة التي يجوز فيها للمسافر أن يقصر فقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا كبيرا: فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد* وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط.


وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام. وان القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق.


وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريب كان أو بعيدا.


والسبب في اختلافهم: معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظ، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه مثل تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك فيجب القصر حيث المشقة.


وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقد قالوا: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة"[160]فكل من انطبق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم"كان يقصر نحو السبعة عشر ميلا"[161].


واشترط الإمام أحمد أن يكون القصر في السفر المتقرب به: كالحج والعمرة والجهاد في حين أجازه مالك والشافعي في السفر المباح دون سفر المعصية وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور على أن القصر يكون في كل سفر، سواء قربة أو سفرا مباحا أو سفر معصية. أما مدة القصر: فقد ذهب أبي حنيفة إلى أن مدة القصر هي خمسة عشر يوما فإذا نوى إقامة أكثر منها أتم، وفي أقوال المذهب سبعة عشر يوما، وثمانية عشرة يوما، وتسعة عشر يوما ثلاث روايات.


أما عند المالكية والشافعية والحنابلة فمدة القصر هي: أربعة أيام، ولا يعد يوم الدخول فلو نوى إقامة الأربعة أتم، والجميع حجتهم من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.


فحجة الأحناف ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام الفتح سبعة عشرة ليلة أو ثمانية عشر ليلة أو تسعة عشر ثلاث روايات.


وحجة غيرهم ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من أنه قدم مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن وكان يقصر حتى ذهب إلى منى[162].


الفرع الثاني: الجمع بين صلاتين في السفر:


الجمع للسفر جائز للحديث الذي أخرجه مالك في موطأه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء.


فقد أجمع الجمهور غير الحنفية على جواز الجمع بين الظهر والعصر تقديما في وقت الأولى وتأخيرا في وقت الثانية، وبين المغرب والعشاء تقديما وتأخيرا في السفر الطويل كما في القصر.


ولا يجوز الجمع إلا في مشتركتي الوقت: فلا يجوز جمع الصبح مع الظهر ولا العصر مع المغرب فالصلوات التي تجمع هي: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما. ويسمى الجمع في وقت الأولى جمع التقديم ،والجمع في وقت الصلاة الثانية: جمع التأخير.


ودليل جمع التأخير: الحديث الثابت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.[163]


ودليل جمع التقديم:حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك، إذا رحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب.[164]


غير أن الحنفية ذهبوا غير مذهب الجمهور فقالوا: لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة للمحرم بالحج:جمع تقديم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين لأن العصر يؤدي قبل وقته المعهود فيفرد بإقامة إعلاما للناس. وفي ليلة مزدلفة: جمع تأخير بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة واحدة لأن العشاء في وقتها فلم تحتج للإعلام.[165]


وهكذا فالتخفيفات الواردة في السفر الهدف منها: هو دفع الحرج والمشقة التي يتعرض لها المسافر غالبا والتيسر عليه في حقوق الله تعالى والترغيب في أداء الفرائض وعدم التنفير من القيام بالواجب، فلا يبقى لمقصر و مهمل حجة أو ذريعة في ترك فرض الصلاة.


المطلب الثالث: الحيض والنفاس:


أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا صلاة عليهن لفقدان شرط الطهارة وذلك للحديث الذي أخرجه البخاري حيث قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيس"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت أحرورية أنت؟ كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به، أو قالت فلا نفعله"[166].


ويحرم على الحائض الصلاة والصيام ومس المصحف، ولا بأس بقراءة القرآن عن ظهر قلب، إلا إذا انقطع الدم ولم تغتسل وكذلك يحرم عليها الطواف بالبيت الحرام، لأن من شرط صحته الطهارة، فهو كالصلاة للحديث الذي أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنا قالت لرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن صفية بنت حبي قد حاضت. قال رسول الله عليه وسلم: لعلها تحبسنا إن لم تكن حائض.[167] إلا أن أبا حنيفة لم يشترط الطهارة في الطواف[168].


ويحرم كذلك وطؤ الحائض حتى تطهر لقوله تعالى: [ ويسئلونك عن المحيض قل: هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض. ولا تقربوهن حتى يطهرن][169]. والدليل على إعفاء المرأة الحائض من قضاء الصلاة. حديث معاذة عن عائشة قالت:"كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر، فيأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة"[170].


كل هذا الذي ذكر من قبيل التيسير على المكلف حيث إن هذه الأعذار من الأعذار المشروعة والتي هي من الفطرة. ولا دخل لإرادة الإنسان فيها. ولأن مدد الحيض والنفاس قد تطول، فإذا ما كلفت الحائض والنفساء بقضاء خمس صلوات في اليوم والليلة شق عليهن ذلك ولا سيما أن التكليف بالأداء بعد الطهر يزيد الأمر صعوبة مع القضاء. لذلك كان العفو عن قضاء الصلاة.





المبحث الثاني: الأعذار المبيحة للتخفيف في الصوم:


الصيام ركن من أركان الإسلام الخمسة وقد أجمع العلماء على وجوب صيامه على القادر عليه، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، ومنكر ذلك كافر بالاتفاق، لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، مثله مثل بقية الأركان الأخرى.


والصوم لغة: هو الإمساك، وشرعا: إمساك عن شهوتي البطن والفرج في جميع النهار بنية[171].


أما مشروعيته: فمن الكتاب: قوله تعالى: [ يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون أياما معدودوات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه، فدية طعام مساكين. فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. يريد بكم الله اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون][172].


ففي هذه الآيات دليل واضح على وجوب صيام رمضان للقادر عليه كما يوجد فيها دليل على إباحة الفطر للمريض والمسافر.


أما من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا"[173]. وعن طلحة بن عبيد الله أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا  فرض الله علي من الصيام؟ قال: شهر رمضان. قال: هل علي غيره؟ قال لا. إلا أن تطوع شيئا. قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام قال، والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص شيئا مما فرض الله علي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق"[174].


أما الأعذار المبيحة للفطر فهي كثيرة سأتناول بعضها في مطالب:


 المطلب الأول: إباحة الفطر للمسافر والمريض:


يباح للمريض والمسافر الفطر في رمضان لقوله تعالى[ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ][175]. وعليها القضاء بعد زوال الأعذار المرض أو السفر.


فالمريض إذا خاف المرض والمسافر استحب لهما الفطر، فإن صاما أجزاهما ، والمرض المبيح للفطر هو الذي يزيد بالصوم ويخشى تباطؤ برئه، ولا يجوز الفطر في السفر إلا في سفر القصر.


والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام يقاس على المريض الذي يخاف زيادة المرض، في إباحة الفطر لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد من صيامه من زيادة المرض وتطاوله، والخوف من تجدد المرض في معناه، وهذا الرأي للحنابلة.


أما عند المالكية فمن سافر سفرا تقصر فيه الصلاة فله أن يفطر وإن لم تنله ضرورة، وعليه القضاء. والصوم عند المالكية أحب من الفطر ولا بد من أن يكون السفر في طاعة.


والصوم عند الحنفية والشافعية أفضل للمسافر إن لم يتضرر. أو تكن عند الحنفية عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة، فإن كانوا مشتركين في النفقة أو مفطرين فالأفضل فطره موافقة للجماعة.


وأضاف الحنفية: أن المحارب الذي يخاف الضعف عند القتال، وليس مسافرا له أن يفطر قبل الحرب. ومن له نوبة حمى أو عادة حيض، لا بأس بفطره على ظن وجوده.


فالجهاد ولو بدون سفر سبب من أسباب إباحة الفطر، للتقوي على لقاء العدو، وعملا بالثابت في السنة عام فتح مكة.


وعموما للفقهاء في فطر المريض أراء: فقال الحنفية والشافعية: المرض يبيح الفطر.


وقال الحنابلة يسن الفطر حالة المرض ويكره الصوم.


وقال المالكية: للمريض أحوال أربعة:


الأولى: أن لا يقدر على الصوم بحال، أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام. فالفطر واجب عليه.


الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة فالفطر جائز له. فهم كالحنفية والشافعية وقال ابن العربي يستحب.


الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض ففي وجوب فطره قولان.


الرابعة: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض. فلا يفطر عند الجمهور.


 هذا بالنسبة للمريض. أما بالنسبة للمسافر فقد اشترط العلماء لجواز فطره شروطا أهمها:


أولها: المسافة المعتبرة هي المسافة نفسها المبيحة قصر الصلاة.


ثانيها: أن يشرع المسافر في السفر قبل طلوع الفجر.


ثالثهما: وقد زاد الشافعية شرطا ثالثا وهو: ألا يكون الشخص مديما للسفر[176].





المطلب الثاني: إباحة الفطر للحامل والمرضع:


عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"إن الله وضع على المسافر شطر الصلاة وعن الحامل أو المرضع الصوم"[177]. وقد اختلف الفقهاء في الحامل والمرضع إذا أفطرتا هل عليهما إطعام؟ على أقوال.


1- قال مالك في المشهور، والشافعي في رواية: تطعم المرضع عن كل يوم لكل مسكين إن كان طفلها لا يقبل غيرها، أما إن قبل غيرها استأجرت له وصامت، وكذلك إذا لم تجد من تستأجر أو لم تجد ما تستأجر به[178].


- وفي رواية عن الحنابلة عليهما القضاء والإطعام.


- أما الشافعية فيوجبون على الحامل والمرضع القضاء دون الإطعام، لأنهما أفطرتا للخوف على نفسيهما فوجب عليهما القضاء دون الإطعام كالمريض، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء، وفي الإطعام أوجه.


- أولها: يجب عن كل يوم مد من الطعام وهو الصحيح لقوله تعالى:[ وعلى الذين يطيقونه فدية][179] .


- الثاني: أن الكفارة مستحبة غير واجبة، وهو قول المازني لأنه إفطار بعذر فلم تجب فيه الكفارة كإفطار المريض.


- الثالث: يجب على المرضع دون الحامل لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها فهي كالمريض. والمرضع أفطرت لمنفصل عنها فوجب عليها الإطعام. وينسب هذا القول للإمام الشافعي.


2- قال مالك في رواية عنه والشافعي في المشهور تطعمان عن كل يوم مدا من الطعام مع القضاء، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: [ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين][180] وهما داخلتان في عموم الآية:


3- وقال أبو حنيفة، والشافعي في رواية ومالك في رواية أيضا: تقضيان ولا تطعمان[181].


4- قال مالك في رواية ثالثة تطعمان ولا قضاء عليهما واستدلوا بالآية السابقة.


5- وفي رواية للشافعي تقضيان وجوبا وتطعمان استحبابا. واستدل على ذلك بأنه إفطار بعذر فلم تجب فيه الكفارة كإفطار المريض، وقال الأحناف إذا خافت الحامل والمرضع على لولديهما أفطرتا وقضيتا ولا فدية عليهما.


وإذا ما لخصنا الآراء السابقة يتضح الآتي:


-       للأحناف. رواية واحدة بالقضاء.


-       وللمالكية روايتان: بالقضاء وثلاث روايات بالإطعام.


-       وللشافعية أربع روايات بالقضاء وأربع روايات بالإطعام.


-       وللحنابلة روايتان بالقضاء ورواية بالإطعام.


ومنشأ الخلاف مرده إلى قياس الحامل والمرضع على الكبير أو على المريض، فمن قاسهما على المريض أوجب عليهما القضاء ومن قاسهما على الكبير أوجب عليهما الإطعام[182]








المبحث الثالث: بعض الأعذار الأخرى:


المطلب الأول: الجوع والعطش الشديدان:


يجوز الفطر لمن حصل له أو أرهقه جوع أو عطش شديدان يخاف منهما الهلاك أو نقصان العقل أو ذهاب بعض الحواس، بحيث لم يقدر معه على الصوم، وعليه القضاء، فإن خاف على نفسه الهلاك حرم الصوم عليه لقوله تعالى: [ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة][183].


المطلب الثاني: الإكراه


يباح الفطر للمكره، وعليه عند الجمهور القضاء وعند الشافعية لا يفطر المستكره، وإذا وطئت المرأة مكرهة أو نائمة فعليها القضاء.


المطلب الثالث: الهرم


يجوز إجماعا للشيخ الفاني والعجوز الفانية عدم الصوم في جميع فصول السنة. ولا قضاء عليها، لعدم القدرة وعليها عن كل يوم فدية طعام مسكين، وتستحب الفدية فقط عند المالكية. بقوله تعالى[ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين][184]. قال ابن عباس ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا[185].














الفرع الرابع: الاستعداد للجهاد في سبيل الله


فالغازي والمجاهد في سبيل الله إذا كان يعلم يقينا أنه سيقاتل العدو في شهر رمضان ويخاف الضعف إذا لم يفطر، فإنه يفطر قبل الحرب مسافرا كان أو مقيما وعليه القضاء[186].


ونختم حديثنا عن الصوم ورخصه إلى أن المعذور في الإفطار من المسلمين البالغين أربعة أقسام.


- الأول: عليهم القضاء دون الفدية، وهم الحائض والنفساء والمريض والمسافر والمغمى عليه.


- الثاني:عكسه وهو الشيخ الذي لا يطيق.


- الثالث: عليهم القضاء والفدية وهم: الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد، ومن أفطر لإنقاذ غريق ونحوه، ومن أخر قضاء رمضان مع الإحكام حتى يدخل رمضان آخر.


- الرابع: لا قضاء ولا فدية وهو المجنون[187].








مواضيع قد تفيدك أيضاَ :

0 التعليقات:

إرسال تعليق