
قال ابن القيم رحمه الله:”ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، فهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم“[1]. ومن صلاحها ودوامها وتأقلمها، مراعاتها لحال المكلفين أثناء تنزيل القواعد على المسائل فيختلف التنزيل من مكلف لآخر تبعا لاختلاف الأحوال والظروف المعيشة، فينزل الفقيه المفتي على نازلة حكما باعتماد قاعدة وينزل على آخر حكما غيره وأسوق في هذا الباب أمثلة لإيضاح الغرض المقصود: فقد سئل النبيe أسئلة كثيرة "وفي أوقت مختلفة عن أفضل الأعمال وخيرها، فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه، أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد"[2]. وهو مراعاة للحال، ولخصوصية الشخصية، قال الشاطبي رحمه الله "فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم"[3]. وقد غير الشافعي كثيرا من أحكامه وفتاواه التي كان عليها ببلاد العراق حين ذهب إلى مصر مراعاة لحال الناس وعوائدهم، عن عائشة رضي الله عنها أن النبيe« كان يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه»[4].
وقد نهى النبيe عن إقامة الحدود في الغزو، ولم يطبق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد السرقة في المجاعة، لأمر عارض، وذلك لعدم إصلاح الضرر بمثله أو بأعظم منه، وللقاعدة الكبرى"الضرورة تبيح المحظورة" والضرر يزال شرعا، وأوقف عمر كذا سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة لما رآه من تغير أحوال الناس، واستغناء الإسلام عنهم، فتصرف عمر لم يلغي الحكم وإنما اعتبار الحال في زمانه؛ وسيبقى الحكم ما نشأت علته، ووجد سببه ومن كان في مشقة من عبادة فإن الحكم أن تيسر له العبادة حتى لا يكون في ضيق من عبادته، تماشيا مع قاعدة "المشقة تجلب التيسير" فالقاعدة راعت حال الشخص على أنه ليس على الأصل الذي يكون عليه، فخففت تيسيرا وتسهيلا لقدرته.
ومن اضطر في مخمصة فكان أقرب إلى الهلاك، فإن الحكم أن يأكل من الحرام مراعاة لحاله التي هو عليها وهي الضرورة التي يحتمل أن يهلك إن لم يأخذ مما وجد قريبا منه، فالقاعدة تقرر مبدأ الضرورة فتبيح المحظورة، لكن يبقى الاستدراك على هذه الضرورة بشروط وقيود أو قواعد أخرى حتى لا يغتنم صاحب الحال هذه الفرصة ويتلذذ بالحرام فيأخذ منه على حسب هواه.
إذا فالقواعد التي تنزل على المكلف حال المرض ليست هي حال الشفاء، وحال الكفاف ليست هي حال المجاعة، وحال الأمن ليس هو حال الخوف، والمتزوجة المحصنة ليست هي العازبة، فكل له حاله الذي يحول إليه حين تكون عليه النازلة. والله أعلم.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال e:« يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما...»[5]، فالإمام مالك قال يؤم الناس أفقههم لا أقرؤهم لأن زمن الصحابة كان الأقرأ هو: الأفقه ضرورة، لخلاف ما عليه الناس اليوم، قال الدكتور محمد الروكي: "فمالك نظر إلى حال الصحابة فوجد التلازم قائما بين الفقه والقراءة، ونظر إلى حال الناس في عهده فوجد أنه ليس كل من كان أقرؤهم هو أفقههم بالضرورة فدفعه هذا التغاير في الأحوال إلى أن يرجح مقصد النبي e على الفقه"[6].
وهنا أسرد بعض القواعد التي تبين العلاقة الوطيدة بين القواعد والحال:
ـ يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها: هذه القاعدة ذكرها القاضي عبد الوهاب، بمعنى أن حال الاضطرار ليس هو حال الاختيار ومنه فإن الضرورة تجيز كما هو معلوم فعل المحظور شرعا، وحال اليقين ليس هو حال الشك فيثبت تطبيق القاعدة الكبرى: "اليقين لا يزول بالشك"، الأمر العارض ليس هو الأمر اللازم كما يظهر من خلال القاعدة "لا عبرة بالعرف الطارئ" وقاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"، "فهذه القواعد تظهر جليا على أن الأحكام الشرعية الاجتهادية تتغير بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية، فإذا كان الناس لهم عرف وعادة يستدعيان حكما ثم تغير إلى عرف وعادة أخرى فإن لذلك تأثيرا كبيرا في تغير الحكم إلى ما يوافق ما انتقل إليه عرف الناس وعادتهم، والذي يغير كيفية العمل بمقتضى الحكم عند اختلاف الأوضاع والأحوال الزمنية، أما النص نفسه فلا يتغير"[7] ومنه قاعدة "إذا تعذر الأصل يحال إلى البدل "أي تغير الحال في كل الأحوال مع مراعاة ثوابت الشريعة الإسلامية وقواعدها الأصلية.
[6] الاجتهاد الفقهي أي دور و أي جديد، بتنسيق د محمد الروكي، ص:103،( مداخلة الأستاذ زيد بوشعراء خلال الندوة المنظمة)
مشاركة من طرف الاستاذ:عبد المومني محمد.
مواضيع قد تفيدك أيضاَ :
الرئيسية,
قسم المقالات المنوعة,
مشاركات الزوار
0 التعليقات:
إرسال تعليق