الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها
إن أفعال المكلف في حياته سواء أفعاله التعبدية أو أفعاله التي يقوم بها في
طلب معاشة كل ذلك لا يخلوا من مشقة. إلا أن المشقة على مراتب: منها الخفيفة ومنها
العظيمة.
وبما أن ديننا الحنيف دين يسر، فإنه جاء لرفع
المشقة على المكلف والتخفيف عليه بما يمكنه من القيام بواجباته الدينية دون إعنات،
أو مشقة. لكن ليست كل مشقة ناجمة عن ممارسة المكلف لأفعاله التعبدية تكون سببا في
تخفيف هذه المشقة عنه. لأن مجرد التكليف يستلزم المشقة: إذ هناك مشقة لازمة
للعبادة لا تنفك عنها، وبدون هذه المشقة لا يكون المكلف ممارسا لتلك العبادة، لكن
هناك مشقة فادحة عظيمة تضيق بها الصدور. فهذه المشقة موجبة للتخفيف والترخيص. فما
هو ضابط الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها؟ وبعبارة أدق ما
هي المشقة المؤثرة في التخفيف؟
إذا رجعنا
إلى كتاب الفروق للقرافي نجده يعطينا إجابة كافية على هذا السؤال حيث يوضح الفرق
بين المشقتين من خلال توضيحه للمعنى الفارق بين هذين النوعين من المشقة-أي المشقة
المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها-حيث أن هناك من المشاق ما هو جزء من العمل
من العبادة نفسها، ومن تم فإن هذا النوع من المشاق لا يوجب تخفيفا ومن باب أولى
إسقاطا وهي التي عبر عنها بالمشاق التي لا تنفك عنها العبادة ...أما المشاق التي
هي خارجة عن ماهية العبادة فهي التي تؤثر في العبادة.
يقول ابن
الشاط في هامش الفروق، في الفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا
تسقطها "التكليف بعينه مشقة، لأنه منع الإنسان من الاسترسال مع دواعي نفسه،
وهو أمر نسبي، وبهذا الاعتبار سمي تكليفا. وهذا المعنى موجود في جميع أحكامه، حتى
الإباحة.. وبعض تلك المشاق هو أعظم المشاق كما في الجهاد الذي فيه بد ل النفس
فبحسب ذلك انقسمت المشاق بالنسبة إلى التكليف إلى نوعين: نوع وقع التكليف بما
يلزمه عادة. أو في الغالب أو في النادر. ونوع لم يقع التكليف بما يلزمه فالنوع
الأول لا يؤثر في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقض التكليف والنوع
الثاني يؤثر لأنه لا ينقض التكليف".[1]
وهكذا
فالمشقة المعتبرة شرعا أي: التي تكون سببا في التخفيف أو إسقاط العبادة، تقع على
ثلاث أنواع وفي هذا يقول القرافي"وتحرير الفرق بينهما-يعني قاعدتي المشقة
المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها- أن المشاق قسمان:
القسم
الأول: لا تنفك
عنه العبادة، كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل والحار والمخاطرة بالنفس
في الجهاد ونحو ذلك فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه مقرر معها ولا توجد
ولا تكون معتبرة بدونه لأنه لا يمكن أن يمارس هذه العبادة دون أن تلحقه هذه
المشقة.
القسم
الثاني: المشاق
التي تنفك عنها العبادة وهي ثلاثة أنواع:
أ- نوع في
المرتبة العليا كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع، فيوجب التخفيف لأن حفظ هذه
الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة.
ب- نوع في
المرتبة الدنيا: كأدنى وجع في أصبع فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة،
لشرف العبادة وخفة هذه المشقة.
ج- النوع
الثالث: مشقة بين هذين النوعين فما قرب من العليا أوجب التخفيف وما قرب من الدنيا
لم يوجبه. وما توسط هذين النوعين يختلف فيه لتجاذب الطرفين له"[2].
من خلال
كلام القرافي هذا لا بد من الإشارة إلى نقطة هامة تضمنها كلامه وهي ربطه لموضوع
المشقة بالمقاصد. فبعد أن قسم المشقة التي تنفك عنها العبادة إلى ثلاث أنواع. نوع
في المرتبة العليا يوجب التخفيف ونوع في المرتبة الدنيا لا يوجب التخفيف ونوع وسط
بين النوعين. نجده يعلل جلب النوع الأول للتخفيف وجوبا تعليلا مقاصديا وذلك ما
أشار إليه بقوله:"لان حفظ هذه الأمور –النفوس والأعضاء والمنافع- هو سبب
مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة"[3].
وعموما
فقد أعطى الشاطبي رحمه الله الضابط الذي يمكن بواسطته بيان الفرق بين المشقة
المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها. وهو أنه إذا كان العمل يؤدي الدوام
والمواظبة عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه: سواء في
نفسه، أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد- وإن لم يكن فيها
شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة، فأحوال الإنسان كلها
كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته...[4] .
وإذا ثبت
من كل هذا أن المشاق نوعان: مشقة خفيفة ومشقة عظيمة: الأولى لا توجب الإسقاط ولا
التخفيف والثانية مشقة معتبرة شرعا تسقط بسببها العبادة أو يلحقها التخفيف فإن دل
كل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الشارع الحكيم لم يكن قاصدا من خلال هذه التكاليف
التي ألزم العباد بها وإلى إحراج المكلفين وإعناتهم. ومما يوضح ذلك :الرخص الكثيرة
التي أباحها الشرع في حال حصول مشقة للمكلف حتى يسهل عليه أداء عبادته على الوجه
المطلوب، ومن غير إلحاق ضرر به، لأن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، والغاية من ذلك
تحقيق عبودية الله تعالى.
وإذا ثبت
كذلك أن الشارع لم يكن قاصدا للمشقة في التكليف فوجود هذه المشقة في العبادة. ليس
بالأمر المعاب، ذلك أن الثواب يعظم بعظم المشقة في العبادة.
إذا
تتبعنا النصوص الواردة في القرآن والسنة المطهرة نجد مجموعة من الأدلة على رفع
المشقة في هذا الدين الحنيف غير أنه كلما صبر الإنسان على تحمل هذه المشقة –شريطة
ألا تكون سببا له في انقطاعه عن العبادة – كلما زاد أجره وعظم ثوابه. لكن إذا
أصبحت هذه المشاق العظيمة تهدد المكلف في نفسه أو أعضائه تتدخل رحمة الشريعة
بمجموعة من الرخص لرفع الحرج عنه- فما هو المقصود بالرخصة؟ وما هي أنواعها
وأسبابها؟
مواضيع قد تفيدك أيضاَ :
الرئيسية,
قسم المقالات المنوعة
0 التعليقات:
إرسال تعليق