الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة
الأصولية
من خلال مقارنتنا بين التعريفين اللذين وضعهما
العلماء للقاعدتين: الفقهية والأصولية يتبين لنا أن القاعدتين تتشابهان في كون كل
منهما قضية كلية ينطبق حكمها العام على جميع جزئياتها التي تندرج تحتها، كما يتفرع
عن كلاهما الفروع والجزئيات الفقهية.
غير أن هذه المشابهة بين القاعدتين لا يزيل الفروق الموجودة بينهما
حيث يجد الباحث اختلافات كثيرة بين القاعدتين: الفقهية والأصولية في أمور عدة.
النوع الأول:[1] الاختلاف من حيث
الحقيقة
تختلف حقيقة القاعدة الفقهية على حقيقة القاعدة الأصولية من حيث أن
القاعدة الفقهية في حقيقتها بيان لحكم شرعي كلي تفرع عنه الكثير من الأحكام
الشرعية الجزئية التي ترتبط بالكلي.
أما القاعدة الأصولية: فهي ليست بيانا لحكم شرعي كلي وإنما هي قواعد
استدلالية تبين الحكم الشرعي. أي أن القاعدة الأصولية هي: أداة يستعملها المجتهد
لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. أما القاعدة الفقهية فهي تطبيق لما
يتوصل إليه المجتهد من الأحكام الشرعية بعد بذل الجهد والوسع.
وقد مثل لذلك فضيلة الشيخ العلامة الدكتور محمد التاويل[2]
حفظه الله بالقاعدة الأصولية "كل أنثى لا تعقد نكاح أنثى" فهي مستخرجة
من حديث" لا تزوج المرأة المرأة
ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"[3]
فهذه الصيغة هي صيغة نفي وهي هنا بمعنى النهي على طريق المجاز والنهي كما نعرف يفيد التحريم ويفيد الفساد
والتعريف في "لا تزوج المرأة المرأة..." يفيد العموم والنتيجة أن
المجتهد يتوصل إلى أن المرأة لا يمكنها أن تزوج المرأة" كل أنثى لا تعقد نكاح
أنثى" فالفقيه يأخذ هذا الفقه المستنبط لأن النص ينطبق على النوازل والوقائع التي تعرض عليه.
هكذا نخلص إلى أن القواعد الأصولية خاصة بالمجتهد يستعملها لاستنباط
الأحكام الفقهية ومعرفة الوقائع والنوازل المستجدة من المصادر الشرعية.
أما القواعد الفقهية فهي خاصة بالمجتهد أو المفتي الذي يرجع إليها لمعرفة الحكم الموجود في الفروع.
النوع الثاني: الاختلاف من حيث المصدر
إن مصدر القاعدة الأصولية يختلف عن مصدر القاعدة الفقهية إذ إن
القواعد الأصولية "ناشئة في أغلبها عن الألفاظ العربية والقواعد العربية
والنصوص العربية"[4].
أما القواعد الفقهية فتتنوع مصادرها فقد يكون مصدرها:
من الكتاب: بمعنى أننا من القرآن نستنتج القاعدة مثل قاعدة
"الحرج مرفوع" فهي مستنبطة من قوله تعالى [ وما جعل عليكم في الدين
من حرج ][5]
وكذلك قاعدة "الضرر يزال"
فإنها مشتقة من قوله تعالى: [ من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار][6]
أو من السنة الشريفة: حيث أن الفقهاء يأخذون لفظ الحديث ويتخذونه قاعدة كلية مثل حديث "لا ضرر ولا ضرار"[7]
فهو لفظ حديث معدود في القواعد الفقهية الكلية وأحيانا قد تكون القاعدة الفقهية
مستنبطة من السنة لكنها لا تكون بنفس اللفظ الذي ورد به الحديث النبوي مثل قاعدة
"الغنم بالغرم" المستمدة من حديث "الخراج بالضمان"[8].
"كما يمكن أن يكون مصدر القاعدة الفقهية مجموعة من المسائل
الفقهية التي تجمعها علاقة جامعة بينهما مثل قاعدة "يغتفر في البقاء مالا
يغتفر في الابتداء" ويأتي ذلك في إجارة المشاع فإن إجارته فاسدة ابتداء ولكن لو أن إنسان أجر بيتا ثم استحق منه قسم شائع فإن
الإجارة تبقى في الحصة الباقية على صحتها، وكذلك لو أجر
البيت كله ثم فسخ
الإجارة في جزء شائع جازت
الإجارة فيما بقي لأن الشيوع الطارئ لا يفسد الإجارة[10].
النوع الثالث: الاختلاف من حيث الأسبقية
"إن القواعد الأصولية هي قواعد
سابقة في الوجود على الفقه من حيث الترتيب المنطقي ولذلك كانت القواعد الأصولية
ميزانا وضابطا لاستنباط الأحكام التي يستثمرها
الفقيه"[11] وبهذا يظهر أن القواعد
متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع لأنها جمع لأشتاتها وربط بينها، وجمع لمعانيها، أما الأصول فالفرض الذهني يقتضي
وجودها قبل الفروع، لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند
استنتاجه: ككون ما في القرآن مقدم على ما في السنة وأن نص القرآن أقوى من ظاهره وغير ذلك من مسالك الاجتهاد[12].
النوع الرابع: الاختلاف من حيث توقف الحكم الشرعي عليها
إن القاعدة الأصولية لا يمكن أن يؤخذ منها الحكم الشرعي مباشرة بل
لابد أن يكون معها دليل تفصيلي. مثال ذلك، قاعدة: الأمر للوجب فهذه القاعدة
الأصولية لا يمكننا أن نأخذ منها وجوب أي فعل أو قول لأنها لا تدل بذاتها صراحة
على أي حكم لكنها يمكن أن تدل على حكم ما إذا أضيفت إلى دليل تفصيلي مثل قوله
تعالى: [ وأن أقيموا الصلاة
واتقوه][13]
فإننا نستنبط منها حكما شرعيا وهو وجوب أداء الصلاة بينما القاعدة الفقهية يمكننا
أن نأخذ منها حكما شرعيا مباشرة من غير الحاجة إلى إضافة دليل تفصيلي إليها مثال
ذلك قاعدة: الأمور بمقاصدها فهذه القاعدة الفقهية نأخذ منها أن النية واجبة للصلاة والوضوء والعبادة أخذا مباشرا.
وهكذا فبما أن القاعدة الفقهية تدل على الحكم الشرعي من غير إضافة
دليل تفصيلي إليها وبما أن دورها كما سبقت الإشارة إليه هو تطبيق ذلك الفقه الذي
استنبطته وأنتجتته القاعدة
الأصولية. وما دامت القاعدة الفقهية تستند إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع...
فإنها تكون حجة صحيحة في تقرير الحكم بالنسبة للمفتي، لكن هناك من يرى أن القاعدة
الفقهية لا يعتمد عليها ولا ثقة في أحكامها لأنها أغلبية يدخلها الاستثناء،
والاستثناء يشكك في القضايا والنوازل الواقعية.
فمثلا القاعدة الفقهية:
كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على
المأموم فإذا أخذنا هذه القاعدة على عمومها قد يفتى الإنسان بأن الإمام إذا غلبه
الحدث أو تذكره تبطل صلاته وصلاة من وراءه، فقبل أن يقف الإمام على هذا الاستثناء
وهو: إلا في سبق الحدث ونسيانه، فقد تخدعه
القاعدة ويفتي بحكم لا يتناوله عموم القاعدة. هذا الاحتمال بوجود الاستثناء في بعض القواعد معناه أننا أمام فقه
مشكوك فيه، ومعناه أنه ليس المشكوك في
القاعدة بل المشكوك في تناوله لهذه الجزئية بعينها فعلى المفتي أن يبحث عن الجزئية
التي يريد أن يفتي فيها حتى يقف عليها بخصوصها. وبهذا لا يبقى للقاعدة الفقهية
قيمة لأنها إذا لم تكن حجة تسهل على المفتي مهمته، فلما يشغل نفسه بتحصيلها، "ولكن الإمام
الشاطبي رحمه الله خالف هذا ورأى أن
الاستثناء لا يقدح في حجية القاعدة، لأن الاستثناء فيه حكم للأصل، لأن الذي استثنى
هو الذي عليه أن يثبت أن هذا الفرع لا تتناوله
القاعدة وليس صاحب الأصل هو الذي عليه أن يثبت دخول الفرع تحت"[14].
النوع الخامس: الاختلاف من حيث الاطراد
والعموم
إننا بمجرد مقارنة كل من تعريف
القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية يتبين لنا جليا وبوضوح أن القاعدة الأصولية مطردة
ولا يوجد فيها استثناء، أما القاعدة الفقهية فهي أغلبية لوجود الاستثناء فيها.
فالقواعد الأصولية كلية تنطبق عليها جميع جزئياتها.أما القواعد الفقهية فإنها أغلبية ويكون الحكم فيها على أغلب
الجزئيات كما تكون لها مستثنيات.
هذه هي أهم الفروق- التي
أوردها العلماء ومن
ألفو في هذا المجال- الموجودة
بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية. "على أن هذه الفروق قد تتلاشى حيث
تجمع القاعدة بين كونها أصولية وقاعدة فقهية في آن واحد مثل قاعدة: "الأصل في
الأشياء الإباحة"
وقاعدة "ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب" وقاعدة "لا ينسب لساكت قول". وقاعدة
"القادر على اليقين هل له على الاجتهاد والأخذ بالظن؟" وقاعدة الأصل
بقاء ما كان على ما كان" حيث أنها قواعد فقهية، من حيث تعبيرها عن حكم كلي
فقهي وهي قواعد أصولية من حيث اتصالها
بقاعدة من قواعد الأصول"[15].
وعموما فإن التمييز بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، والتفريق
بينهما كان أول من أشار إليه شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه الفروق حيث جاء فيها
ما يلي:
"فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا
وعلوا اشتملت على أصول وفروع وأصولها قسمان:
أحدهما: المسمى بأصول الفقه وهو في غالب
أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض لتلك
الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة
للتحريم ونحو ذلك.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة
العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة مالا يحصى ولم يذكر منها شيء في
أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنا على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم
يتحصل"[16].
فماهي إذن أهم الفروق والاختلافات الموجودة بين القاعدة الفقهية
والضابط الفقهي؟
مواضيع قد تفيدك أيضاَ :
الرئيسية,
قسم المقالات المنوعة
0 التعليقات:
إرسال تعليق