ٳن
الشريعة تنبني على مقاصد كبرى في تحديدها للتشريع العام للمسلمين، فدرء المفاسد
معناه׃ رفعها وٳزالتها، لكن في حال التحقق من أنها مفسدة، أما ″ٳذا
تعارضت مصلحة ومفسدة فدفع المفسدة مقدم في الغالب ٳلا أن تكون المفسدة مغلوبة، وذلك
لأن ﭐعتناء الشرع بترك المنهيات أشد من ﭐعتنائه بفعل المأمورات، لما يترتب على
المناهي من الضرر المنافي لحكمة الشارع في النهي″، وٳقامة المصالح في الدارين، وحقيقة
المصلحة كما قال الدكتور أحمد الريسوني׃″كل لذة ومتعة جسدية كانت أو
نفسية أو عقلية أو روحية، وحقيقة المفسدة هي׃ كل ألم وعذاب جسميا كان أو
نفسيا أو عقليا أو روحيا، فقد جعل النفع أو الضر يكون للجسد أو الروح أو النفس أو
العقل فكل مصلحة مست هذه المراكز لٳنسان أو جميعها فقد عدها لذة و متعة وكل مفسدة
مست هذه المراكز أو جميعها فهي ألم وعذاب.
أما الطاهر بن عاشور رحمه
الله فقد اعتبرها׃ ″وصف لفعل يحصل به الصلاح أي النفع دائما أو غالبا
للجمهور أو الآحاد، فقوله دائما׃ يشير ٳلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقوله׃
للجمهورأو الآحاد׃ ٳشارة ٳلى أنها قسمان مصلحة عامة، وهي ما فيه صلاح عموم
الأمة أو الجمهور ولا ٳلتفات ٳلى أحوال الأ فراد من حيث أنهم أجزاء من مجموع
الأمة...″[1].
وٳذا عدنا إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وجدناه يقرر
أن المصلحة والمفسدة هي׃ اللذات وأسبابها
والأفراح وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع الآلام وأسبابها والهموم وأسبابها وهي
منقسمة ٳلى دنيوية وأخروية"[2]. فكانت
المفسدة بمعنى المضرة والمصلحة بمعنى
المنفعة.
وبذلك نقول بأن العز بن
عبدالسلام عبر تعبيرا عاما حتى يدخل تحتها كل ما هو من شأن المفسدة كمفسدة
أوالمصلحة كمصلحة بغض النظرعما يشوبها مما يعاكسها، ″والمصالح المجتلبة شرعا والمفاسد
المستدفعة ٳنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث، أهواء
النفوس في جلب مصالحها العادية″[3].
وهذه المصالح المجتلبة والمفاسدالمرغوب في دفعها ﻓﺈنه يحصل للمكلف في دفعها أو جلبها ﺇلتباس، حال خفاء المصالح أو المفاسد أو حال استوائها،لذا قرر
العلماء ضوابط لها، ومن حقه الترجيح فيها. فقد تظهر في النازلة مصلحة ظاهرة
بالعقل، وبالشرع مفسدة بينة، فيقدم الشرع على العقل، أو مفسدة ومصلحة أو مفسدة
خفية ومصلحة ظاهرة، أو مفسدة آجلة ومصلحة عاجلة.
وعلى العموم ﻓﺈن
العلماء قد بينوا أن׃ درء
المفاسد أولى من جلب المصالح[4]. كما
تقرر في الشريعة بعد استقرائها من قبل الأصوليين والفقهاء ولا مبالاة بفوات
المصلحة، لأن دفع الأذى أولى من جلب المصلحة. فمثلا ׃ الخمر في قوله عزوجل ׃
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر
قل فيهما ﺇثم كبير ومنافع للناس﴾[5]. فقد
أقر الشرع بوجود المنافع ( هي مصالح للناس) منها رفع الهموم والأحزان في وقت، ونسيان
المشاكل، ودفء البدن من البرد خاصة في فصله ومكانه، ثم ﺇن
رواجه بين الناس بالبيع والشراء فيه من الربح... وكما قالوا السياحة ...!فهذه بعض مصالحه التي قد تظهر بالعقل منافع وليست كذلك، لأن كل
مصلحة تغطيها مضرة أعظم منها، فالخمر يحطم الأخلاق والقيم، ومروءات الناس، ناهيك
عن ما ينتج عنه من أذية الناس من جيران وأبناء أفرادا وجماعات، وما يسببه الخمر من
الطلاق كل يوم في ارتفاع لنسبه، لهو من أعظم الجرائم، وكذا حصد الأرواح من قبل
السائقين واﻹعتداء بالقتل دون أي سبب، ﺇنما سببه أنه فاقد لعقله
بالخمر، كذا الحرابة
والتحرش، ثم الخسائر المادية فهي تفوق أضعاف ما يربحه تجاره والمروجون له، ممن
يعطى ترخيص بيعه أو من يبيعه، ﺇذا
فمفاسده لا تعد ولا تحصى كما وضحها عز وجل׃ ﴿ وﺇثمهما أكبر من
نفعهما﴾[6] فكان درء مفاسده أولى وأجلى من جلب مصالحه.
كما شدد الشرع في مسألة الربا لمفاسدها الآجلة أو
العاجلة، وإن بدا أن لها منافع عاجلة على المقترض، ﺇلا أنه عند التحقيق تتبين أن
مفسدته عامة سواء على المقرض أو المقترض. فيبطل بانتشار الربا، التكافل اﻹجتماعي، وتنعدم أواصر الأخوة المبنية على التعاون والتقوى، وتبنى
الأخوة على الماديات فقط، كما يزداد التضييق على المحتاجين بواسطة الزيادة، ويتكل
ذووا المال على الكسب من المال بالربا في الغالب دون ﺇعمال العقل بترويجه في التجارة أو الفلاحة أو فيما يحتاج ﺇليه الناس في دنياهم، فينتج عنه تكديس الأموال، وتنعدم الحاجيات
ﻹنعدام من يأتي بها، فيكون ذلك ضررا على الجميع، والأزمة المالية
حاليا ﺇنما كانت بسببه، فعمت الجميع ممن
يتعامل بالربا في معاملته، وفيما يبدو لي، والله أعلم، أن الربا مفاسده آجلة أكثر
منها عاجلة ومنافعه عاجلة أكثر منها آجلة، وأن ضرره أعظم من نفعه بكثير لذا شدد
الشرع تشديدا كبيرا في التحريم بقوله عز وجل:﴿ ﺇن الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس﴾[7]، وقال عزوجل﴿ لا تاكلوا الربا أضعافا مضاعفة﴾[8]، وقال
رسول الله e: “لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده”[9].
فقدم الشرع الحكيم دفع مفسدته
لغلبتها وشموله وخطرها الآجل على الناس، "ﻓﺇن المصلحة كانت هي الغالبة
عند مناظرتها مع المفسدة في حكم ﺇلاعتياد فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب
على العباد، ونيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا ﻓﺈن تبعها مفسدة أو
مشقة، فليست بمقصود في شرعية ذلك الفعل وطلبه
كذلك للمفسدة ﺇذا كانت هي الغالبة بالنظر ﺇلى المصلحة في حكم اﻹعتياد
فرفعها هو المقصود شرعا، ولأجله وقع النهي"[10].
فالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مصلحة، قال تعالى: ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون ﺇلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر﴾[11]. لكن ﺇذا
شابه مفسدة محققة أو غالبة أو مساوية أو آجلة كان درء مفسدته بتركه أحرى، فتكون
درء مفسدته مصلحة قد ﭐجتلبت عوضا.
مثاله: ﺇمتناع النبي صلى الله
عليه وسلم عن قتل المنافقين رغم أنها مصلحة لتطهير النفوس وﭐتعاظ من خالج خاطره
ذلك، ﺇلا أنه صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا الفعل خالطته مفسدة أن يُتحدث ويقال
أن محمدا يقتل أصحابه، فسد بذلك ذريعة هذا الأمر، بالتوقف وعدم اﻹقدام.
٭ ﺇستنتاج׃
إن تقديم درء المفاسد على جلب
المصالح في الشريعة يراعي قواعد منها: اﻹستحسان أو سد الذرائع أو مراعاة الخلاف أو
النظر في مآلات الأفعال، حين اﻹقدام أو اﻹحجام عن الفعل، لأنه ربما قد أدى الفعل ﺇلى
جلب مصلحة فيه لكن مؤدية ﺇلى مفسدة تزيد عليها فيكون درء المفسدة أحرى وأجلى للفقيه
وهذا "مجال للمجتهد صعب المورد ﺇلا أنه عذب المذاق محمود العب جار على مقاصد
الشريعة"[12].
فباﻹعتماد على ما وجدته في كتب الفقه وما أثبتته في بحثي من أمثلة تطبيقية، تبين أن "درء
المفاسد مقدم على جلب
المصالح"، لكن هذه القاعدة لا تعمل ﺇلا بمنهجية قائمة׃ أولها التحقق من أن المفسدة
معتبرة من الشرع، أو العقل أحيانا، أما المصلحة فيستوجب تحققها وﭐعتبارها من الشرع
ولو لم يعتبرها العقل، ثم التبصر بأن المفسدة أعظم وأعلى مرتبة من المصلحة أو أن
المصلحة أدنى من المفسدة، ثم التأكد من أن المصلحة موازية للمفسدة في العاجل والآجل،
على الفرد وعلى الجماعة، وأخيرا من أن المصلحة مشوبة بمفسدة وقد يحتمل أن تغطي المضرة أو تساويها، ﻓﺈذا انبنى
الاحتمال على هذا المآل المذكور، سواء في العاجل أو الآجل، ﻓﺈن درء مفسدتها مقدم
على جلب مصلحتها، فهذه القاعدة تحدد لنا مقاصد الشرع وتضبطه في بوثقة محكمة عالية
المنال.
[1] من كتاب الدكتور إدريس حمادي، المصالح المرسلة و بناء
المجتمع الإنساني( الشاطبي و ابن خلدون نموذجين).
[4] الأشباه و النظائر في قواعد فروع فقه الشافعية، ص: 87، و شرح القواعد الفقهية ، أحمد الزرقا، ص: 20.
[9] رواه أبو داود و الترمذي و النسائي، أنظر فتح الباري
لابن حجر العسقلاني، كتاب البيوع باب آكل الربا و شاهده و كاتبه، فالمسألة فيها
تفصيل من جهة الحديث و من جهة شرحه و بسطه في الكتاب.
مواضيع قد تفيدك أيضاَ :
الرئيسية,
قسم المقالات المنوعة,
مشاركات الزوار
0 التعليقات:
إرسال تعليق