ﺇن
علم المقاصد من العلوم التي تنمي في المتعلم منهج الملاحظة والكفاية، خاصة عند
البحث عن علة الشيء، وسر الحكم يكمن في لماذا؟ وما هو السبب؟ منهج تعليل اﻷحكام من ﺃساسيات علم المقاصد وقواعده
اﻷولى التي صار عليها جل العلماء قديما وحديثا، وقـد اقتصرت على الشيخ ﺃبو ﺇسحاق ﺇمام
المقاصد والشيخ الطاهر بن عاشور والدكتور ﺃحمد الريسوني ، وكلهم مالكيون .
وقد بدﺃت بالشاطبي
رحمه الله(ت 790 ﮬ) لما يعلم ﺃنه بانٍ لفكر المقاصد ومؤسس له ﺃما
ابن عاشور رحمه الله والدكتور ﺃحمد
الريسوني لما لهما من فضل في التجديد والزيادة. وﺇن كانت اﻹضافة على منحى الشاطبي
رحمه الله و كل اتجاه لهذا العلم نلمسه من
خلال الكتاب الذي تركه صاحبه وﺇن هذه اﻹتجاهات في نظري تكمل بعضها البعض وتزيد
الأول وضوحا وبيانا ولا يخلو منهج من هذه
المناهج الثلاثة من اعتماد القواعد في كشف أسرار الشريعة وتبيين أغوارها التي تسعى ﺇلى جلب المصلحة ودرء
المفسدة .
1)_اﻹمام
الشاطبي׃
بنى الشاطبي منهجه
على استقراء متين من نصوص الشريعة الغراء المؤسس على فهم الكتاب والسنة الشريفة مستشهدا ومستدلا بالمقصود من النص فقط ولا يزيد
، وقد جعل الشاطبي كتابه كما ذكر للراسخين في الشريعة،" ولا يسمح للناظر في
هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد ﺃو مستفيد ،حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها
وفروعها، منقولها ومعقولها"[1].
وبعد الاستقراء عند الشيخ قرر أن مقاصد الشريعة مبنية على ثلاث׃
الضرورية والحاجية والتحسينية. "فالضرورية لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا
بحيث ﺇذا فقدت لم تجري مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد و تهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، أما الحاجيات׃
فمعناها ﺃنها مفتقر ﺇليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب ﺇلى الحرج والمشقة
بفوت المطلوب ، أما التحسينيات: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب اﻷحوال المدنسات التي تأنفها العقول"[2].
أما فيما يخص مسألة
الأحكام، فيرى الكثير التسليم واﻹذعان لأحكام الله تعالى. وقد انقسم الناس فيه ﺇلى
طوائف قددا، أما الشاطبي فذهب ﺇلى أن الأصل في العبادات التعبد والأصل في العادات التعليل، لكن التعبد والوقوف
عند حدود النص لا يمنع القيام بعملية البحث عن أسرار تلك العبادات، ثم الأحكام الشرعية كلها، مشتملة على مقاصد هي: علل ومصالح ومنافع، لذا على العلماء الاستمرار في عملية الكشف عن مقاصد الشرع، ﺇذا فمسألة التعليل عند الشيخ مثبتة ﺇجمالا مصداقا
لقوله تعالى׃﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس
على الله حجة بعد الرسل﴾[3]. كما أكد على أن تفاصيل أحكام
الشريعة معللة أيضا، وقد مثل لها بمجموعة من النصوص ׃﴿
كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾[4]. وقد بين أن ما ذهب ﺇليه
جمهور الأصوليين هو جواز التعليل باستثناء الظاهرية.
وﺇن طرق مسالك العلة عند
الشاطبي رحمه الله مبنية على أربع مسالك:
أولا׃ الاستقراء وذلك لقوله
رحمه الله "والمعتمد ﺇنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح
العباد، والاستقراء أهم مسلك لمعرفة المقاصد الشرعية عند اﻹمام الشاطبي"[5].
ثانيا׃ فهم المقاصد وفق
مقتضيات اللسان العربي.
ثالثا׃ الأمر والنهي الابتدائي
والتصريحي.
وأخيرا׃ المقاصد الأصلية والمقاصد
التبعية؛ باعتبار أن الأحكام الشرعية مقاصد أساسية، تعتبر الغاية الأولى والعليا
للحكم ولها مقاصد ثانوية تابعة للأولى ومكملة لها"[6]. وقد قسم المقاصد ﺇلى
قسمين منها قصد الشارع الذي بين من خلاله قصد الشريعة للابتداء والأفهام، وللتكليف،
وقصدها في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة ( القصد الامتثالي)، ثم القسم الثاني
وهو: قصد المكلف، وقد فصله تفصيلا مبينا واضحا "ولا شك أن التفكير المقاصدي
أحدث مع الشاطبي خاصة، نقلة عامة في تاريخ الفقه وأصوله ، فخلص التشريع اﻹسلامي من
الحرفية والتجزيئية في التعامل مع النصوص ومهد عمليا الطريق أمام الفقهاء كي
يلتمسوا الأحكام بحرية أوفر... ولم تكن القرون الستة التي تفصلنا عنه لتمنع العديد
من مفكري عصرنا من الاستناد ﺇليه واستلهامه ﻹيجاد الحلول للقضايا الراهنة"[7].
2)_ الطاهر بن عاشور׃
خصص
الشيخ منهجه كما قال׃" بالبحث عن مقاصد اﻹسلام
من التشريع في قوانين
المعاملات واﻵداب التي أرى أنها الجديرة بأن
تخص باسم الشريعة والتي هي مظهر ما راعاه اﻹسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وتراجيحها
مما هو عظمة الشريعة اﻹسلامية"[8]. وهذا ما أحاول رصده في هذا المبحث، لكن من خلال
قواعد فقهية وأصولية معتمدة عند المالكية، باعتمادها منحى مقاصديا للشريعة، والشيخ
رحمه الله جعل محور مقاصد الشريعة العامة هو الفطرة الخلقية׃ "أي
النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق... وهي أعظم وصفا بنيت عليه الشريعة"[9]. ثم جاء بمقاصد أخرى
عامة وكبرى ضمن الصدر وهي السماحة، ثم حفظ نظام اﻷمة، ثم المساواة والحرية ـ ( وهذا
يغيب عن اﻷقدمين ) ـ ، وقد ضرب أمثلة عن كل في جل مجالات العبادات والعادات والمعاملات
كما فعل الشيخ أبو ﺇسحاق. قال الدكتور سعيد حليم في ﺇحدى محاضراته:"[10] بعد تأليف اﻹمام
الشاطبي لم يظهر بكتاب في المقاصد يهتم بالجانب التقعيدي التأصيلي، ﺇلا بعد قرون
متعددة؛ وذلك من خلال كتاب مقاصد الشريعة اﻹسلامية للشيخ الطاهر بن عاشور، والحقيقة
أن الشيخ لم يكن مقلدا لما جاء في الموافقات بل كان مجددا وناقدا، بحيث أضاف لبنات
جديدة في صرح بناء علم المقاصد فقد تعقب الشاطبي في أمور وزاد عليه بأسلوب دقيق،
وقريحة نافذة علم غزير... ويمكن اعتباره المنظر الثالث في علم المقاصد بعد العز بن
عبد السلام (660ﻫ) والشاطبي رحمهما الله. فقد ذكر فيما له علاقة بالتعليل كلية،
وهذا ما يفهم من كلامه عامة، لكن أثناء التتبع والتدقيق نجده وكأنه يقر بأن ما كان
له علاقة بالجانب التعبدي نتوقف عنده قال׃″وجملة القول أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع ، وهي حكم ومصالح
ومنافع؛ وكذالك كان الواجب على علمائها تعرف علل التشريع ومقاصده ظاهرها و خفيها فإن بعض الحكم قد يكون خفيا وﺇن ﺃفهام العلماء
متفاوتة في التفطن لها فإذا أعوز في بعض العصور اﻹطلاع على شيء منها...″[11] ·
وقد
“جعل الله هذه الحكمة مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا
تختلف باختلاف الأمم والعوائد”[12].
ويتضح منهجه في هذه المسألة واضحا من خلال قوله׃“
وأنت إذا
نظرت إلى
أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحكمة، لأنهم نفوا
القياس والاعتبار بالمعاني ووفقوا عند الظواهر فلم يجتازوها، ويتجلى ذلك واضحا إذا
طالعت كتاب″اﻹعراب
عن الحيرة واﻹلتباس
الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس″لابن حزم الظاهري. فقد
كان هذا الأصل محور مناظراته مع أصحاب القياس على أن أهل الظاهر يقعون في ورطة
التوقف عن إثبات
الأحكام... وهو موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيا عن شريعة اﻹسلام
صلاحها لجميع العصور والأقطار. ولذلك كان واجب الفقيه عندما يحقق أن الحكم تعبدي
أن يحافظ على صورته وأن لا يزيد في تعبديتها كما لا يضيع أصل التعبدية، ومثاله
يتضح في مسألة العول”[13]. أما مسالك الشيخ في
إثبات العلة فانه لخصها أو جمعها في ثلاث نقط وهي׃ 1ـ الاستقراء وهو عام وخاص. 2ـ أدلة القرآن الواضحة الدلالة
. 3 ـ السنة
المتواترة.
3)_ الدكتور أحمد الريسوني׃
فقد بين منحاه من خلال تعريفه أولا لمعنى مقاصد
الشريعة بأنها “الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة
العباد”[14]، ثم تعقب هذا التعريف
بتعريف آخر في كتابه الفكر المقاصدي׃
″هي الغايات
المستهدفة والنتائج والفوائد المرجوة من وضع الشريعة جملة ومن وضع أحكامها تفصيلا″[15]. فلخص هذين الحدين في
قوله ׃“أن الشريعة تمثل مراد
الله وغاية ما كلف به عباده وما شرعه لهم فهي بمنزلة الثمرة من الشجرة”[16] ∙
وقسم بدوره كذلك المقاصد ﺇلى ثلاثة׃ عامة وهي التي تراعيها
الشريعة في كل أبوابها و هي وريثة الشرائع اﻹلهية. والخاصة التي تهدف
الشريعة ﺇلى تحقيقها في باب معين أو في أبواب قليلة متجانسة من أبواب التشريع، أما
المقاصد الجزئية هي׃
ما يقصده الشارع في كل حكم شرعي من ﺇيجاب أو تحريم أو ندب أو كراهة أو ﺇباحة أو
شرط أو سبب[17].
ومن المقاصد العامة׃ هداية الخلق ﺇلى الله، والتعليم
والتزكية، ثم الرحمة والعدل. وقد استدل لكل بنصوص شرعية[18].
أما مسألة تعليل الأحكام عند الدكتور فإنها
مستندة ﺇلى قاعدة ذكرها وهي׃“ كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته”[19] ، عقله من عقله وخفي على
من خفي عليه وذلك׃“ لأن ما خفي على أحد يمكن
أن يعقله آخر، وما خفي اليوم سيظهر بعد حين وبهذا المرتقى تشرف مراتب العلماء
وتتفاوت . وخلاصة بحثه لخصها في ثلاث نقط׃
ü
جميع أحكام الشريعة معللة بمقاصدها ومصالحها.
ü
خفاء الحكمة والمقصد لا يمنع انقداحها وانكشافها
للآخرين.
فالدكتور الريسوني ناقش قول الفقهاء الأصوليين׃ أن أحكام الشريعة منها
ما هو معلل معقول المعنى وقولهم الأصل في العبادات التزام التعبد وعدم التعليل،
والأصل في المعاملات التعليل، واﻹلتفات ﺇلى المعاني والمصالح، وأمثال من هذا
الكلام كثير، فبينه ورجح ما ذهب ﺇليه بأمثلة واضحة بينة.
أما طريقته في ﺇثبات العلل، فقد وضحها توضيحا،
بدءا باﻹجماع، ثم النص الشرعي، ثم اﻹيماء
والتنبيه ׃ بمعنى تذكر العلة
نصا لكن ﺇيماء وﺇشارة، تصريحا لا
تلميحا، ثم المناسبة׃“كأن يكون هناك تناسب بين
الحكم والفعل بالعقل، كشيء ظاهر المفسدة أوالمصلحة عند العقل”[21]، فكملت بتلك مسالك أربع،
وأخيرا ذكر″ الاستقراء وبين أنه طريق عملي ﻹثبات المقاصد العامة، وتتبع للمعاني والمقاصد
الجزئية للأحكام في دلالتها المشتركة″[22]، فهذه بعض الاتجاهات للفكر
المقاصدي، مختصرة مقتضبة كما رأيناها عند هؤلاء المالكية من الشيخ أبو ﺇسحاق والطاهر بن عاشور رحمهما الله والدكتور الفاضل أحمد
الريسوني وﺇننا نجد الكثير ممن يسير على نهجهم في هذا العلم أو يضيف أو يخالف والله
أعلم.
[7] مقاصد الشريعة׃ التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد و قصور الاجتهاد، نور الدين
بوثوري، ص:95.
مواضيع قد تفيدك أيضاَ :
الرئيسية,
قسم المقالات المنوعة,
مشاركات الزوار
0 التعليقات:
إرسال تعليق